شرط الاقتراب من حل أزمة مصر

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 21 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تمادينا فى تشخيص الأزمة التى نعيش ويلاتها، وتمادينا فى توجيه اللوم وتحميل الأطراف الأخرى مسئولية الأحوال الثلاثة التى وصلت مصر إليها: حال الضياع، وثورة الجياع، والحرب الأهلية. والآن يتمادى كل طرف فى توريط طرف آخر للدخول فى حوار نعرف مقدما أنه غير مؤهل له، وإن تأهل فهو بالتأكيد غير قادر على الالتزام بما انتهى اليه الحوار. فرقاء الحوار انشغلوا بالدعوات إلى حوار غير ممكن بينما الناس يزدادون ضياعا والجوعى جوعا والمتقاتلون شجارا وصداما بدرجات متصاعدة من العنف.

 

•••

 

أكتب هذه السطور مطمئنا إلى أن أسوأ ما خبأه القدر، أو دبرته المؤامرة أو تسبب فيه جهل وجشع وسذاجة أطراف فى الأزمة، قد مرّ وهو الآن وراءنا، وأن ما هو قادم أقل سوءا أو أقل شراسة. أستند فى اطمئنانى، ولا أقول فى تفاؤلى، إلى عدة أمور تظهر أمامى فى شكل حقائق جديدة تنسج خيوطها خيطا بخيط. أبدأ بأمر أعتقد أنه الأبرز والأوضح. نعرف أن الحوار صار كلمة أو فكرة سيئة السمعة. سمعنا طعونا جارحة فى محاورين ودعاة حوار ربما كانوا حسنى النية وشاهدنا خيبات أمل لا تحصى تطل من عيون عديد المحاورين ودعاة الحوار. كثيرة هى الأسباب التى عطلت الحوار أو أساءت إلى سمعته كأداة للاقتراب من الحل، ولكن المؤكد هو أن غالبية الناس فقدوا الثقة فى الحوار وفى الدعاة وانفضوا عنه وعنهم.

 

ننسى أحيانا، وربما عن قصد، أن السمعة السيئة التى لحقت ببعض الشخصيات الداعية للحوار أو المنظمة له أو المشاركة فيه، جاءت نتيجة الحملات اللاذعة التى تبادلها أطراف الأزمة السياسية المصرية على امتداد عامين. أقابل أجانب، عربا أو فرنجة، أغلبهم مندهش لحجم الإساءات التى ألحقها كل طرف بالأطراف الأخرى. سمعت أحدهم يؤكد أنه، وبعد أن سمع ما سمع من إساءات وتهم وإدانات، لو كان  مواطنا مصريا لاحتار فى اختيار من يمثله فى انتخابات رئاسة أو برلمان. أكثرية الأسماء السياسية المطروحة فى الساحة لوثتها الحملات المتبادلة. بعضها فقد أرصدة بذل فى جمعها دما وجهدا ومالا وفيرا على امتداد عقود وتأتى فى صدارة هذا البعض أسماء عديدة فى قيادة جماعة الإخوان المسلمين وأسماء عينت نفسها رموزا لتيارات سياسية أخرى.

 

لم يعد يوجد على مسرح السياسة فى مصر من السياسيين الذين يحظون بثقة الشعب عدد يسمح بإجراء حوار مثمر ورشيد. لقد كان للثورة المصرية الفضل فى أن انكشف للمصريين اسوأ ما فى النفس السياسية المصرية وأسوأ ما فى مؤسسات الدولة.  بل ولم يعد خافيا أن فشل تجارب الحوار أو الدعوة له خلال الشهور الماضية أكد الشكوك الرائجة حول صعوبة العثور على قيادات تمارس الحوار وفى الوقت نفسه على «وسطاء» أكفاء للتقريب بين وجهات النظر المتباينة حول أزمة السياسة فى مصر.

 

•••

 

مر على مصر عامان عانت خلالهما من مضاعفات القصف المتبادل بين مختلف القوى والتيارات. جرى اتهام الإسلاميين عموما بأنهم سرقوا ثورة عزيزة على نفوس الليبراليين خاصة وشعب مصر عامة. وفى الجانب الآخر وصم الإسلاميون الليبراليين بالعلمانية، بمعنى الإلحاد. وفى مرحلة أخرى وقع اتهامهم باستدعاء الفلول والتحالف معهم ضد الثورة وضد «الإسلام». هؤلاء وأولئك اتهموا المجلس العسكرى، ممثل المؤسسة العسكرية، بأنه تدخل فيما لا يعنيه متسببا فى ارتباك سياسى غير محدود يكلف مستقبل مصر وأجيالها القادمة ثمنا باهظا. ثم أنه أساء إلى سمعة المؤسسة المحترمة التى يحمل اسمها حين مارست قواته قدرا عاليا من العنف فى التعامل مع المتظاهرات والمتظاهرين، فضلا عن أنه لم يبذل جهدا حقيقيا أو جادا لإصلاح جهاز الشرطة فى وقت كان مناسبا. الخلاصة أنه استحق بأخطاء عديدة وقع فيها أن تلحق به إساءات أكثرها عن حق وبعضها عن باطل ولكنها فى مجملها وأثارها لا تقل خطورة عن تلك الإساءات التى لحقت بالتيارات الإسلامية والليبرالية والفلولية. ومع ذلك وبسبب تدهور أداء معظم قادة التيارات الأخرى وفشلها فى التوصل إلى قاعدة حوار معقولة، عاد الرهان على المؤسسة العسكرية ليحتل مكانة سيد الاحتمالات، برضاء البعض. وفى حال استمر التدهور سيعود الرهان عليها برضاء الأكثرية.

 

لم يكن فى حسبان الكثيرين أن تصل سياط السياسة اللاذعة إلى الأزهر الشريف. كان المتصور للبسطاء وهواة العمل السياسى أن وصول تيارات الإسلام السياسى إلى ساحات السياسة والحكم سيضيف قوة إلى قوة وقيمة هذه المؤسسة العريقة. الآن يقول بعض مؤرخى التطور الدينى فى مصر على مر القرون إن الأزهر لم يتعرض فى تاريخه لإساءة متعمدة ومنكرة كتلك التى تعرض لها على أيدى قوى معينة تحمل شعارات الإسلام السياسى الذى خرج من رحم الثورة المصرية.

 

•••

 

  إذا صحت صورة الوضع السياسى المصرى الراهن حقيقة وواقعا بالدرجة نفسها التى تظهر فيها لنا وللعالم الخارجى واضحة لا تقبل اللبس، فإننا نكون أمام مستقبل قريب يستحيل فيه على تيار بعينه أو مؤسسة بعينها أن تتصدر العمل السياسى مستندة إلى ثقة الشعب بها. لقد فشلت جميع الأطراف فى امتحانات العامين الأولين من الثورة. لم ينجح أحد. أقول هذا وأمامى علامات الفشل أراها فى كل مكان فى مصر، وألمسه فى كل مكان زرته خارج مصر. أكثر القوى المصرية، تيارات ومؤسسات وأحزاب وقيادات تسببت بسوء تنظيمها أو ركاكة تكويناتها السياسية والثقافية أو بتخلف معظم قياداتها وتفاهة تفكيرها وانعدام خبراتها وهشاشة تجاربها وضعف بنيتها التحتية وبإصرارها على العيش داخل أنساق عفا عليها الزمن، فى الإساءة إلى بعضها البعض، وفى المحصلة النهائية أساءت إلى ثورة مصر ومصر نفسها.

 

•••

 

أصحاب النوايا الحسنة كثيرون. هؤلاء يعتقدون أنهم بجهود بسيطة سيتمكنون من لم شمل هذه الأطراف، أو التقريب بين وجهات نظرهم، أو التوصل بهم ومعهم إلى صيغة تعايش تضع أساسا لمرحلة انتقالية جديدة. أتمنى لهم حظا سعيدا فى جهودهم وأدعو لهم بالتوفيق فى مسعاهم. ولكن يجب أن تحذيرهم من مغبة القفز فوق شروط أعتقد بوجوب توافرها لتحقيق نجاح مهمات الوساطة والتقريب.

 

 لا أعتقد أن أحدا سيطالب الأطراف كافة أن تطلب المغفرة أولا عن ذنوبها التى ارتكبتها فى حق بعضها البعض. ولكنى أدعوها أن تنظر فى داخلها وتتأمل فيما فعلت بنفسها وبتقاليدها وقواعدها وقيمها وطموحاتها. بل أشعر وبيقين كبير أن مصر على وشك أن تشهد عمليات واسعة من النقد الذاتى تقوم به مختلف التيارات والمؤسسات السياسية. هذه الأطراف جميعها أخطأت فى حق نفسها قبل أن تخطئ فى حق المجتمع أو الوطن، وأعتقد بأن بعضها أخطأ فى حق الدين ورسالته وقيمه أخطاء لا تغتفر ولن تتسامح فيها الأجيال الشابة.

 

أتوقع أن يسبق التوصل إلى تقارب بين مختلف تيارات العمل السياسى فى مصر انعقاد جلسات ومؤتمرات «مساءلة ومحاسبة» للقيادات التى تولت مسئولية التوجيه والقيادة خلال العامين الماضيين. بعض هذه القيادات يتهمها جيل جديد فى صفوف أحزابها وتنظيماتها بأنها فرطت فى تراث وجهد وأموال وأحلام ومعتقدات حملتها أجيال خلال عقود عديدة. السؤال كثير التردد هذه الأيام فى صفوف تيارات دينية وعلمانية وعسكرية وأمنية هو ماذا فعلتم يا قادة حتى جلبتم علينا سوء الحال وأساء بعضكم إلى حقائق فى الدين والوطن والنهضة والتنوير والتاريخ، والآن تشوهون المصير.

 

أتوقع أن تحدث فى وقت قريب داخل بعض، إن لم يكن داخل كل، التيارات والأحزاب والقوى السياسية والتنظيمات الاجتماعية تغييرات تعكس انتصار جيل لم يهزم على جيل من القيادات فشل فى أن يرقى إلى مستوى ثورة. 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved