أمى.. سلام عليك فى العالمين

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: السبت 21 مارس 2015 - 11:25 ص بتوقيت القاهرة

أمى الحبيية الغالية: لن أخلف عهدى معك.. فقد عاهدت الله أن أكتب عنك كل عام فى مثل هذه الأيام التى تزيد من توهج ذكراك لأننى لا أنساك أبدا.. فعيد الأم يحيى كل عام ذكرياتك الجميلة معنا.. لأنه يعرض شريط كفاحك العظيم كزوجة وأم وجدة عظيمة.. وجارة وصديقة وأخت رائعة لكل جيرانك وأصدقائك.

أتذكرك الآن يا أمى وأنت تودعين شقيقى الأكبر صلاح وهو ذاهب للجبهة ونذر الحرب على الأبواب.. وهو يقول لك: إننى أشتم ريح الحرب فأكثرى الدعاء.. ثم وأنت تستقبلين نبأ إصابته بعد عبوره للقناة بعدة أيام.. وكيف صبرت على إصابته حتى برأ.

مع أنك استقبلتِ أيامها مع خالتى خبر استشهاد ابن خالتى مراد سيد عبدالحافظ الحاصل على نجمة سيناء والذى كتبت عن بطولاته وزارة الدفاع كتابا.. فقد كان تلميذا نجيبا فى مدرسة بطل الصاعقة الشهيد/ إبراهيم الرفاعى ومشاركا له فى معركة الثغرة.

أتذكرك اليوم وقد علمتينا كيف نكرم الضيف وكيف نستقبله.. لقد عشت أياما كان يجلس على مائدتها 25 فردا فلا تضجر ولا تبخل ولا تضن بشىء.. فقد كان بيتها مفتوحا للجميع وفيه كل الخير.. وقد كنت أحيانا أحضر أضيافا فجأة فى منتصف الليل فأجدها قد ذبحت الدجاجة وجهزت طعاما كاملا.

واليوم لا تستطيع أى زوجة شابة أن تستضيف أحدا إلا أن تخطرها قبلها بأيام.. وقد كانت أمى وجاراتها يتبادلن الخبز.. فإذا خبزت واحدة أرسلت للآخريات.. فإذا جاءنا سائل كانت ترسلنى إليه بالطعام واللحم الشهى ليأكل ثم ينصرف.

لقد بدأت الحياة مع أبى، الذى افتقرت أسرته بعد غنى نتيجة سرقة أموال جدى التاجر الذى لم يتحمل الصدمة فاعتزل فى بيته من الحزن حتى مات.. وكان والدى يعول أسرة مكونة من سبعة أفراد فى الخمسينيات بمرتب لا يزيد على 4 جنيهات فكانت أمى تدير بها البيت بمنتهى الاقتدار.

فالطيور بأنواعها فى البيت وحجرة الخزين ملأى بالخير وكان أبى ينفد مرتبه أحيانا فى اليوم العاشر من الشهر فيسير البيت أوتوماتيكيا بقية الشهر.

لقد تحملت أمى شدة جدى وجدتى واعتلال صحتهما فأحسنت سياستهما حتى ماتا راضيين عنها.. ثم تحملت إدارة وتطوير كل شىء فى حياتنا مع رعاية أولادها وتعليمهم بالجامعات بمرتب وصل فى أحسن أحواله فى السبعينات إلى ستين جنيها.. بالإضافة لبعض الموارد الإضافية مع إيجارات شقق كان يملكها أبى.

ثم جاءت المحنة الكبرى حينما اعتقل أبى وأشقائى السبعة كرهائن.. فإذا بها تقود الموقف العصيب بمنتهى الصبر والجلد والرضا والحزم وهى المرأة الرقيقة التى لم تخرج من بلدتها الصغيرة.. فإذا بها تطوف سجون مصر كلها وتعرف خباياها وأسرارها ومميزاتها وعيوبها.. ثم يخرج أبى وأشقائى.. وقد كان أبى أصبرهم جميعا وأرضاهم بالله وقدره.

ثم تتحمل أزمتى الصعبة سنوات طويلة لتطوف ورائى سجون مصر من أقصاها إلى أقصاها ليتحقق لها الأمل الذى انتظرته طويلا لترانى وتحتضننى حرا طليقا.

ثم تتحمل صدمة حفيدها الشاب الذى توفى بسرطان العظام وبعدها موت أخى الأصغر.. ثم تتحمل أبى قعيدا عدة سنوات.. ثم تودعه إلى قبره.. وبعدها بقليل تلقى نظرة الوداع إلى حصادها الكبير المتمثل فى أولادها وأحفادها وأحفاد أحفادها ــ أربعة أجيال بدأوا بأبى الذى كان وحيدا ــ فتودعهم فى صمت ودون مرض سابق.. تودعهم وهى مازالت تصوم النوافل وتقوم الليل وتلهج بالذكر وتحب الجميع.. تودعهم بعد أن استجاب الله لدعائها ألا يثقل بها فراشا ولا يحوجها لمخلوق أبدا.. وأن تموت واقفة.. فسلام عليك يا من أعطيت ولم تستبقى شيئا.. فطبت حية وميتة.. وسلام عليك فى الدارين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved