صينية عيد الأم

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 21 مارس 2019 - 11:45 م بتوقيت القاهرة



مثل كل شيء في هذه الحياة خضعت هدية عيد الأم لمنطق التطور، وهذا التطور ارتبط بأشياء كثيرة جدا، فلقد ارتبط ارتباطا وثيقا بالحالة الاقتصادية وارتفاع الأسعار وبالتالي فما كان يمكن شراؤه في عام ما عاد بالإمكان شراؤه في عام آخر. كما أنه ارتبط أيضا بمسألة الاحتياج ومن هنا فإذا كان القصد من الهدية هو سد النواقص فلقد كان من الطبيعي أن تختلف الهدية باختلاف احتياجات الأم من عام إلى آخر. كما ارتبط تطور الهدية أحيانا بطبيعة العلاقة بين الأولاد والأم حتى إذا ما توترت لسبب أو لآخر قبل عيد الأم غدت الهدية مجرد أداء واجب وغابت عنها الحميمية التي كانت تميز الأعوام السابقة. وبالأمس كان يوم ٢١ مارس، اليوم الرسمي المعتمد في مصر للاحتفال بكل الأمهات أمدّ الله في أعمارهن جميعا ، وعلي سبيل إحياء هذا الاحتفال بشكل مختلف تعالوا معا نتتبع مشوار هدية عيد الأم من خلال تجربة امرأة مرت بكل مراحل التطور الممكنة.
***
تلقت صاحبتنا أول هدية بمناسبة عيد الأم من أولادها عندما كانوا في مرحلة الحضانة، وكانت تتكون من رسم من صنع أيديهم، والرسم في هذه المرحلة المبكرة عادة ما كان عبارة عن خطوط بسيطة تستدير استدارة كاملة فتصنع شمسا أو قمرا، أو تستدير نصف استدارة فترسم قلبا، ولا بأس من عصا مرتعشة تسكن فوقها همزة تبدأ بها كلمة أمي أو كلمة أحبك. كثير من هذه الأوراق ما زالت صاحبتنا تحتفظ بها، مع عدد آخر من المستندات بخط يد أولادها تهددهم بتسريبها بين الحين والحين بكل ما تحويه من أخطاء لطيفة وبراءة مفرطة، فيحذرونها من أن تكشف سرهم وتضحك ويضحكون. بعد ذلك تطور الأمر ولم تعد الهدية مصنوعة يدويا لكنها صارت هدية مشتراه، بعض الجنيهات المقتطعة من المصروف الشهري للأولاد مع دعم مالي ضروري من الأب كانوا يكفون لشراء زجاجة من الپارفان أو شال من الحرير أو باقة من الورد البلدي أو رواية لنعيم صبري أو سي دي لعلي الحجار، وكثيرا ما تحولت الألف المرتعشة إياها إلى مجموعة من الحروف المتراصة يبث فيها الأولاد الأم عرفانهم الكبير، كما كانوا يكتبون لها أيضا باللغة الإنجليزية .
***
في مرحلة لاحقة وفي ظروف غامضة حدث تطور جذري في مفهوم هدية عيد الأم، تحولت هدايا عيد الأم في كل السنين إلى أدوات منزلية، فهذه صينية تيفال، وذاك طقم ملون للشاي، وتلك شواية لحم. وكرر الأولاد على مسامع الأم أن بإمكانها تبديل الهدية بأخرى من محل كذا للأدوات المنزلية، يا سلام! أصبح كل المتاح إذن هو المفاضلة بين صينية تصلح لطهو بيتزا وأخرى تناسب عمل الرقاق! عندما حاولت صاحبتنا أن تفسر هذا التطور العجيب تفسيرا چندريا على أساس تأثر الأولاد بالتقسيم النوعي للعمل بين الرجل والمرأة لم يصمد هذا التفسير طويلا، فلقد سبق لها أن تلقت منهم في مراحل سابقة هدايا شخصية عابرة للاختلافات البيولوچية كالكتب مثلا، فهل يكون الأولاد قد جنحوا إلى المحافظة رغم كل ما بثته فيهم من قيم عصرية؟ الحذر واجب إذن. أم هل يكون ذلك من قبيل الاستسهال على أساس أن اختيار صينية مستطيلة أو مربعة أيسر بكثير من اختيار لوحة أو عُقد؟ ترحمت صاحبتنا على الأيام الخوالي التي كان الأطفال فيها يرسمون لها قلوبا ودببة حمراء بلا عدد. الأرجح أن هذا التطور له صلة بطبيعة التطور في المرحلة العمرية لصاحبتنا، هكذا حدثتها نفسها، لكن ألا يعلم هؤلاء الأولاد أنها عازفة عن دخول المطبخ من زمان بسبب ضغطها المنخفض؟ بالقطع هم يعلمون، فشكواها من صهد الفرن وحرارة المطبخ يدري بها القاصي والداني، فهل يقصدون إذن مهاداة معاونتها المنزلية التي تقوم هي بمهمة الطهو؟ حتى هذا التفسير لا يستقيم لأنهم يخصصون بالفعل هدية مناسبة لمعاونتها أم آية .
***
ها قد وصلت صاحبتنا للمحطة الأخيرة، وهي محطة شهدت فيها هدية عيد الأم تطورا مذهلا. دخل عليها الأولاد وبين أيديهم صندوق متوسط الحجم ملفوف بورق هدايا مبهج ومربوط بشريط ذهبي أنيق، ترى ماذا في داخل الصندوق؟ مبدئيا هذا الصندوق لا يمكن أن يكون في داخله صينية فالمقاييس مختلفة جدا.. الحمد لله، كما أنه لا يتسع لدستة من الأطباق، ولقد سبق لهم أن أهدوها طقما من الملاعق والسكاكين في العام الماضي فهل يُعقَل أن يكرروا الهدية نفسها؟ لا لا هذا الأمر مستبعد. مممممم ...احتارت صاحبتنا واحتار دليلها، ومع أنها أرادت أن تُظهِر بعض التريث في فض الصندوق وإخراج الهدية الموعودة إلا أنها لم تنجح في لجم مشاعرها. طبع الأولاد الواحد منهم تلو الآخر قبلة علي جبينها: كل سنة وحضرتك طيبة. لوّنت حمرة الترقب وجنتيها وردت عليهم شاكرة. راحت تفك الشريط الذهبي ثم الورق الملون والفضول يكاد يقتلها، داخل الصندوق الكبير استكان صندوقان آخران أصغر حجما، نظرت إليهما ولم تفهم ماذا بداخلهما بالضبط مع أن المسألة كانت أوضح من الوضوح. تناهى إلى سمعها قول أحدهم منتصرا: جبنا لحضرتك جهازين ضغط، واحد بزيبق وواحد بدون زيبق علشان تطمنّي قبل دخول المطبخ. ومع أن المفاجأة كانت مذهلة، إلا أنها راحت تضحك وتضحك حتى سالت دموعها!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved