مواجهة مصطنعة بين العلم والدين

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 21 مارس 2020 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

إن المواجهات بين العلم والدين ليست جديدة على البشرية، فمنذ العصور الوسطى على الأقل وتلك المواجهات بين النظريات العلمية والنصوص الدينية لم تنته ولن تنتهى فى تقديرى، لكن مما لا شك فيه أن انتشار فيروس كورونا والتحديات الثقيلة التى ألقاها أمام البشرية جميعا قد أعادت تلك المواجهة بين العلم والدين بقوة مرة أخرى!
سبب المواجهة هو طبيعة ومصدر المعرفة وطريقة الحكم المختلفة عليها بين العلم والدين. فأى معلومة عامة سياسية أو اجتماعية مثلا لها مصدر، أنت تستمع إلى نشرة الأخبار فى الراديو، أو تشاهدها فى التلفاز أو تستمع لحديث من جارك أو قريبك، أو من مسئول فى الدولة أو على مواقع التواصل الاجتماعى، هذه كلها مصادر مختلفة للمعلومات، ثم إنك بعد ذلك لك طريقة معينة فى الحكم على صحة المعلومة، هناك من يصدق أى معلومة لطالما كانت مكتوبة لأن الكتابة (الطباعة) لها سلطة على المستقبل، يعتقد بعض المستقبلين دائما أن المعلومة المطبوعة صحيحة، البعض يحكم على صحة المعلومة أو الخبر بحسب مصدرها، هناك مثلا من لا يصدق أى معلومة أو خبر مصدره وسائل الإعلام العالمية ربما لاعتقاد مسبق أنها تتآمر على بلده، وهناك على العكس تماما من لا يصدق إلا المصادر الأجنبية ربما اعتمادا على خبرة سابقة بعدم مصداقية الأخبار المحلية، هناك من يصدق المشاهير لمجرد أنهم مشاهير، هناك من يصدق المسئولين لمجرد أنهم معينون بشكل رسمى وهكذا!
***
هذا ما يخص المعلومات العامة المجتمعية أو السياسية أو الاقتصادية، فماذا عن طبيعة المعلومات الدينية والعلمية؟ المعرفة الدينية بحسب المؤمنين على اختلاف أديانهم مصدرها الله والرسل والشخصيات التى تتمتع بالقداسة، ومن هنا فيقين المؤمن بالمعرفة الدينية يحدث بشكل تلقائى دون الحاجة إلى اختبار المصداقية بسبب طبيعة المصادر المقدسة، فى جدل الصلوات الجماعية مثلا فى مصر، قال بالفعل بعض المسلمين إن المساجد هى بيوت الله التى طالبنا سبحانه بتعميرها طالما نؤمن به وباليوم الآخر، فكيف نتوقف عن الذهاب للمساجد وهو أمر من الله؟ بعض المسلمين الشيعة فى إيران مثلا صمموا على زيارة العتبات المقدسة، ليس ذلك فقط، بل وبعضهم كان يلعقها بلسانه لأنها قطعا طاهرة إن لم تكن شافية من الأمراض! بعض المسيحيين قالوا كيف نوقف التناول ونحن نؤمن بتجسد المسيح فى هذا السر الكنسى وهو قادر على المعجزات؟ وهكذا مصدر المعلومات الدينية كفيل بتصديقها المطلق وعدم مراجعتها أو إعادة الاعتبار لتأويل مختلف فى ضوء التطورات المعاصرة!
أما المعلومات ذات الطبيعة العلمية مصدرها التجربة التى تقود إلى القوانين العلمية، طريقة التأكد من المصداقية ليست غيبية ولا تعتمد على مصادر مقدسة، بل على التجارب والملاحظات والأساليب المنهجية فى البحث والتوصل للنتائج ومن ثم اعتمادها. قطعا للعلم سلطة كبيرة على معارفنا الحديثة ومنذ عصور التنوير أصبح للعقل دور كبير جدا فى صناعة ما نعتبره حقائق فى مجتمعاتنا المعاصرة، والعلم فى مواجهة وباء كورونا يتحدث بالأرقام والمختبرات والفحوصات لا بالعواطف والمشاعر والمعنويات!
مساء الخميس الماضى وبتوقيت الغرب الأمريكى صدرت نتائج دراسة علمية لمكتب عمدة ولاية كاليفورنيا تقول إن ٢٥ مليون على الأقل من أصل ٤٠ مليون مواطن هم عدد سكان الولاية سيصاب بكورونا خلال الأسابيع الثمانية القادمة، فما كان من حاكم الولاية إلا وأصدر حظر تجوال شاملا وبقوة القانون لا يمكن خرقه لأسباب دينية أو غير دينية وإلا طبقت العقوبات! نفس الأمر حدث فى إيطاليا بعدما تأخرت القرارات كثيرا مما أوقع البلاد فى كارثة ما زالت تعانى منها الدولة الأوروبية الساحرة، فى فرنسا أيضا وبسبب عدم التزام الناس بالبقاء فى المنازل صدرت قرارات حظر التجوال وغلق دور العبادة أمام الصلوات الجماعية، وكما استجاب بعض المؤمنين فإن آخرين لم يستجيبوا، فى كوريا واحدة من بؤر المرض كانت إحدى الجماعات الدينية التى أصرت على الصلوات الجماعية فى إحدى كنائس البلاد رغم التحذيرات، فى إيطاليا حاول بعض سكان الشمال عبور الحدود إلى سويسرا من أجل أداء الصلوات هناك إلى أن تم منعهم أخيرا، فى إحدى كنائس لبنان ثار المصلون على الكاهن بعد أن قرر إلغاء القداس التزاما بقرار السلطات فى البلاد! فى إيران وكما ذكرنا صمم الحجاج على التحدى حتى صارت مدينة «قم» الدينية إحدى أكبر بؤر الإصابات فى البلاد، وفى مصر ورغم كل المناشدات فما زالت صلوات الجمعة تقام، بل وفى الجمعة الماضية مباشرة قال وزير الأوقاف أثناء الخطبة كلاما قد يفهم بشكل مرتبك قد يعادى العلم وسبل الوقاية، وفى نفس اليوم عرض برنامج «الحكاية» على فضائية أم بى سى مصرــ نقلا عن «المصرى اليوم» ــ فيديو لحلقة ذكر بعد صلاة الجمعة فى مسجد السيدة زينب! وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم تتخذ الكنيسة موقفا حازما من إقامة القداديس بشكل جماعى وما زال طقس التناول مستمرا رغم مخاطره!
***
الحقيقة ورغم أن جدلية الدين والعلم مستمرة، لكن هناك افتعالا واضحا لوضع الدين فى مواجهة العلم من قبل بعض المؤمنين والعلمانيين على السواء. فمن ناحية فإن بعض المؤمنين لا يرى فى المصائب والكوارث الكبرى سوى فرصة ذهبية للترويج لصحة دينه أو فى استغلال الموقف للسيطرة على الأتباع وإخضاعهم لسلطتهم الدينية! فى الأسبوع الماضى فقط رأيت فيديوهين على موقع «يوتيوب» أحدهما لـ«شيخ مصرى» يعيش فى الخارج خصص كلامه للتأكيد على أن كورونا «جندى من جنود الله لعقاب الكفار واختبار المسلمين»! ثم قفز فجأة إلى خلاصة لا تقبل الشك وهو أن الفيروس دليل أن ديننا ــ أى الإسلامى ــ هو الصحيح وأن هدى الرسول هو الطريق رافضا فتاوى غلق المساجد! وبشكل مطابق (مع اختلاف الألفاظ فقط) وفى فيديو منتشر لأحد قساوسة مصر قال أيضا إنه لا ينبغى لأولاد الرب أن يتحدثوا بنفس طريقة الناس ولا أن يشغلوا بالهم بتغطية الإعلام ولا العلم، لأن الفيروس مذكور فى العهد القديم وهو دليل للمؤمن ــ أى المسيحى ــ على صحة طريقه، وبالتالى دعا الأتباع إلى حضور الصلوات فى الكنائس والتقرب إلى الرب!
وفى المقابل، فإن بعض العلمانيين وفى تعليقاتهم على موقف المؤمنين ينفون تماما أى دور للدين فى مواجهة الوباء معتبرين أن المتدينين يساعدون على نشر المرض داعين إلى الاستماع إلى العلم فقط!
والحقيقة أنه قطعا لا جدال أن الاستماع للعلم ــ المبنى على التجربة والاختبار ــ هو أمر ضرورى فى مواجهة الوباء، وفى يقينى فإن أى ادعاءات أن هناك طبا «دينيا» ــ أى وضع وصفات طبية مبنية على بعض النصوص المقدسة هو أمر خطير للغاية طالما أنه لم يختبر بشكل علمى، ولكن لا يستطيع أحد أبدا أن ينفى أن العلم والدين لا غنى عنهما فى مواجهة التحدى الحالى، فالعلم يجيب عن الأسئلة المادية المباشرة للمرض، يوجه بطرق الوقاية والعلاج، يسابق الزمن من أجل إيجاد الدواء بينما يقدم الدين الإجابات المعنوية والروحية الأعم للمرض، فالمتدين من الطبيعى جدا أن يلجأ للدين، ومن المنطقى أن يبحث عن الصلوات ومناجاة الله من أجل مده بالطمأنينة والثبات ومن هنا لا يجب أبدا التقليل من دور الدين كملجأ روحى للعالم الآن، لكن لابد من وضع الحدود الفاصلة بين الإجابات العلمية والإجابات الدينية، العلم يجيب عن أسئلة حالة، ولا نجاة جماعية بدون العلماء والأطباء، بينما يقدم الدين الإجابات الأكثر عمقا والمتعلقة بفلسفة الحياة لمن يقبلها ويطلبها من المؤمنين، لكن دون أن يتعارض ذلك مع العلم أو القانون وإن حدث تعارض فالغلبة للعلم والقانون لأن الأمر يتعلق بمصلحة الناس العامة لا بتفضيلاتهم أو عقائدهم الشخصية!
حسنا فعلت جبهة علماء الأزهر بإصدارها بيانا غاية فى الأهمية والمسئولية يفك هذا الاشتباك المصطنع بين الدين والعلم ويدعو الناس للصلاة فى البيوت وأتمنى أن تغير وزارة الأوقاف من موقفها فورا وحسنا فعلت الكنيستان الإنجيلية والكاثوليكية وأتمنى أن تلحق بهما الكنيسة الأرثوذكسية، وإن لم تفعل الأوقاف أو الكنيسة، فلتفعل الدولة بقوة القانون وبتأييد من العلم والدين معا!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved