حكومة الوحدة الوطنية فى ليبيا.. السيادة والإنقاذ والمصالحة

يوسف محمد الصواني
يوسف محمد الصواني

آخر تحديث: الأحد 21 مارس 2021 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

أخيرا ورغم كل ما لحق به من نقائص وشبهات فساد وتجاهل الأسباب الحقيقية للصراع فى ليبيا وعدم التعامل الجدى مع تصاعد وتيرة التدخل الأجنبى، فقد أسفر الحوار الذى قادته البعثة الأممية للدعم فى ليبيا فى إطار ما سمى بمنتدى الحوار السياسى الليبى عن تشكيل مجلس رئاسى بقيادة السيد محمد المنفى وحكومة وحدة وطنية برئاسة السيد عبدالحميد الدبيبة أعطاهما البرلمان الثقة ليحلا محل المجلس الرئاسى وحكومة الوفاق التى نجمت عن اتفاق الصخيرات ومارست أعمالها لعدة سنوات وسط صراع سياسى وعسكرى.
منتدى الحوار السياسى الليبى الذى عقد سلسلة اجتماعات ما بين تونس وسويسرا أنجز اتفاقا سياسيا يعد مكملا ومعدلا لاتفاقية الصخيرات. الاتفاق الجديد يمثل خارطة انتقالية جديدة ساهم فى وضعها ممثلون عن أطراف أساسية فى الصراع رغم تغييب أطراف أخرى أو عدم التوازن فى التمثيل. أنتج الحوار حكومة جديدة لليبيا وسط اتهامات بالرشوة والفساد عززت ما عبر عنه رؤساء بعثة الأمم المتحدة فى وصف الطبقة السياسية الليبية وممارساتها بأبشع النعوت الدالة على خيانة الوطن والأمانة والتورط فى الفساد. ورغم المعلومات الصادمة التى حواها تقرير ديوان المحاسبة الليبى وما يمكن أن يظهر لاحقا من حقائق ومعلومات، فقد تم التسليم والاستلام بين الحكومة المنحلة والحكومة الجديدة وهو ما يفسر استعدادا للتغاضى أمام مستوى الإحباط واليأس لدى كل الليبيين، وهو ما يفسر أيضا ترحيبهم بالحكومة الجديدة تعلقا بأمل أن تتمكن من الحيلولة دون مزيد من الاقتتال وتمزيق أوصال البلاد والمجتمع.
لا شك فى اتصال ما يجرى بما قادت إليه الأحداث التى جرت فى ليبيا منذ 2011 من انقسام وتمييز وعنف وتدمير وفشل كل الحكومات والقوى المسيطرة إرساء نظام يستوعب هذه الانقسامات والاختلافات لنجاح الديمقراطية وتحقيق الاستقرار والتنمية بتبنٍ صادق وتطبيق عملى جاد للسلام والمصالحة الشاملة. ولعله من نافلة القول إن تحقيق السلام الاجتماعى وصياغة أطر دستورية وسياسية وبناء المؤسسات والتشريعات لا يمكن أن يحظى بأى نجاح ما لم يتوفر له الإجماع أو التوافق كضرورة لا تسبقها أية ضرورة وهو ما يحتاج لاستيعاب دور المكونات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المركبة والمعقدة جميعا. هنا تبرز الحاجة مجددا إلى آلية صنع سلام شامل تنتج اتفاق سلام يعالج مصادر وأسباب الصراع والانقسام بين مختلف الأطراف بما يؤسس لعملية سياسية متحررة من العنف والإقصاء وتقلل خطر الانحدار نحو المزيد من التشرذم والانقسام المجتمعى. هكذا فإن حكومة الوحدة الوطنية أمام تحديات عديدة تتصل بهذه الأهداف الوطنية وستظهر الأسابيع القليلة القادمة جديتها وإلى أى مدى يمكنها أن تحقق هذه الأهداف.
تحديات وآفاق
إن قدرة حكومة الوحدة الوطنية تعتمد على مدى إدراكها وتقديرها أهمية وخطورة بناء الدولة بمعناه الأوسع والذى يعنى بناء يقوم بوظائفه منظورا إليها من زاوية السياسات التى لا بد أن يتم تصميمها استجابة للظروف التى تعانيها «الدولة الليبية». نحن أمام وضعية هشاشة ناجمة عن تعطيل أو غياب أو قصور المؤسسات وضعف نظام الحوكمة والإدماج وآليات الرقابة والمحاسبة الفاعلة ومعايير الشفافية والمساءلة. هذه جملة اشتراطات لابد أن تستجيب لاحتياجات مرحلة ما بعد الصراع من خلال مفهمة وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها ضمن السياق الأوسع للعلاقة بين الدولة والمجتمع ومن البديهى أن هذا الهدف الاستراتيجى لا يمكن تحقيقه بدون المصالحة الوطنية الشاملة والتوافق على العقد المجتمعى.
ولعل أول الشروط الموضوعية التى تمكن من البدء الفعلى فى هذا المسار هو أن تتخذ الحكومة والمجلس الرئاسى حزمة عاجلة من الخطوات والإجراءات تقود إلى أن يُفسح العنفُ المجال للأمن فيتراجع غياب القانون والإقصاء السياسى وانتهاكات حقوق الإنسان أمام حكم القانون بما فى ذلك إصدار تشريعات لإدارة خطة وطنية للإنقاذ وإعادة الإعمار الذى لا بد أن يسبق الشروع فى التنمية. لا بد أن يتم مقاربة ذلك وتنفيذه على المستويات المحلية وليس المركزية ليسهم فى إزالة الاحتقان والتقليل من آثار الصراع على الموارد وهيمنة المركز وهذا جوهرى للمصالحة بكل تأكيد.
تحدى السيادة والأمن
إن استعادة السيادة الوطنية فى مقدمة الشروط التى لا يمكن بدونها تحقيق أى نجاح أو تقدم فى معالجة بقية التحديات. تخليص البلاد من ربقة الوجود والتدخل الأجنبى هما فى طليعة سلم أولويات الحكومة إذا كانت حريصة على تمهيد الطريق للولوج لمعالجة ناجعة لتحديات الاستقرار والمصالحة والحيلولة دون العودة للاقتتال والحرب. ولذلك فإن أهم مؤشرات جدية حكومة الوحدة الوطنية ومقياس نجاحها مدى تمكنها من إجلاء كلى للقوات العسكرية أو شبه العسكرية الأجنبية مهما كانت صيغة تواجدها فوق الأراضى الليبية. تحقيق هذا المطلب سيجعل الحكومة فى وضع أكثر قوة وشرعية ويجعل الأطراف الليبية أكثر اضطرارا للتعامل مع بعضها ومع الحكومة دونما تأثيرات خارجية. كما أن تحقيق هذا المطلب يتصل بهدف تحقيق الأمن والتعامل مع الجماعات المسلحة فى كامل البلاد ويمهد للمصالحة دونما اعتبارات لقوى خارجية.
لقد فشلت الحكومات المتعاقبة فى إظهار أى صرامة فى التصدى للميليشيات، بل قامت باختيار البديل اللامنطقى باسترضائها، وتكليفها بالمهام الرسمية وتمويلها وتمكينها من أن تصبح أقوى من مصدر تمويلها (الدولة). أصبحت الأسلحة ضرورة للحياة، وأداة سلطوية مرغوبة بشكل كبير فتم تحويل مؤسسات الدولة إلى مؤسسات تدعم الحرب ولورداتها وتراجع الاقتصاد الرسمى أمام اقتصاد أسود يستنزف الموارد وينشر الممارسات الإجرامية وغير القانونية بما فى ذلك تهريب البشر وتجارة المخدرات والمؤثرات العقلية. لذلك فإن أولى الاشتراطات القانونية لمعالجة هذا التحدى تكمن فى إعادة الاعتبار للمؤسسات الرسمية وتفعيلها ضمن ما توفره التشريعات الحاكمة لعملها مع إعادة النظر فيما صدر من تشريعات أو قرارات وإجراءات أعطت صفة شرعية وخولت فاعلين غير رسميين صلاحيات بشكل مثّل انتهاكا صريحا للعدالة وحقوق الإنسان.
المصالحة الوطنية الشاملة
ليست المصالحة الوطنية أمرا جديدا على ليبيا فقد انطلقت أولى مراحلها عبر جهود النظام السابق فى التصالح مع معارضيه ومع السجناء أيضا مطلع الألفية بعمل المؤسسات السياسية والأمنية والبعثات الدبلوماسية الليبية فى الولايات المتحدة وبريطانيا وسويسرا وبعض الدول العربية. وبمساعدة شخصيات وخاصة من قوى التيار الإسلامى، قادت أجهزة الدولة وخاصة الأمنية منها حوارات بما فى ذلك مع سجناء الحركات الإسلامية وبعمل مباشر لشخصيات بارزة فى النظام ومؤسساته الأمنية. اضطرت المؤسسات الرسمية بعد فترة لللجوء إلى مؤسسة القذافى العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية برئاسة سيف الإسلام القذافى لتدخل وسيطا بين الدولة ومؤسساتها الرسمية والأطراف التى كان الحوار معها يتعرض لعقبات كأداء لخصها التساؤل بل التشكيك فى أن يكون الحوار حقيقيا طالما أنه يجرى بين السجناء والسجان. وقد اضطرت أجهزة الأمن إلى الاستعانة بمؤسسة القذافى الخيرية وهو ما لاقى قبولا وتأييدا من السجناء والمعارضة كما لعبت المؤسسة بعدها دورا فى تأمين تواصل الليبيين بالخارج للعودة إلى بلادهم دون خوف عبر موافقات الجهات الأمنية.
هذا البعد المضىء للمصالحة ورغم ما يراه البعض من قصور أو ما يقوم به بعض مكونات النظام السابق من اتهام لسيف الإسلام القذافى فى أنه كان وراء تلك المصالحة التى أخرجت تلك القوى الإسلامية وأعادتها للحياة العامة لتكون أول المنقضين على النظام فى 2011 واعتبار ذلك جريمة كبرى، انطلق العمل فيه طويلا قبل أن تصبح المؤسسة طرفا فيه. وبصرف النظر عما حدث، فإن تلك المصالحة لا يمكن فصلها موضوعيا عما يجرى اليوم وربما أيضا لجهة ما حصل من توافقات فى تونس وجنيف وقبلهما فى داركار وعواصم أخرى من السعى لمصالحة أخرى بعيدا عن الأضواء تمت بين أطراف من التيار الإسلامى وما يعرف بتيار أنصار النظام السابق وهو ما نراه اليوم معبرا عنه بشكل ظاهر فى تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية التى حازت ثقة البرلمان فى طبرق قبل أيام.
هكذا ومثلما استغلت المصالحة السابقة عتادا للهجوم على أطراف بعينها سواء داخل بقايا النظام السابق أو من الحركات الإسلامية، ستكون عرضة للاستغلال السياسى وهو ما سيضر بالاستقرار والوحدة الوطنية بما هى جوهر مهمة الحكومة ذاتها. لذلك لا بد من التيقظ والحذر وأن يبدأ فورا تعديل التشريعات الحالية المتعلقة بها أو إصدار تشريعات جديدة لا تقتصر على العدالة الانتقالية والمصالحة الشكلية، بل تعطى الأولوية للوحدة الوطنية، وتستند إلى التقاليد والعرف الاجتماعى الليبى ضمن مقاربة شمولية تهتدى بأفضل الدروس والخبرات فى مجال بناء الدولة والأمة معا وتنطلق من اتفاق سلام ومصالحة يؤسس لعقد اجتماعى جديد. وبقدر ما يكون هذا ضروريا للحيلولة دون العبث بقيم المصالحة وتحريفها فإنه يقتضى مراعاة اعتبارات أساسية وحاسمة:
أولا: المصالحة عملية حوار وطنى شامل وحقيقى. هذا الحوار لا بد أن ينطلق من قناعة حقيقة أن البلاد دخلت سياق حرب أهلية وما صاحبها. لذلك فإن إنهاء هذا الوضع والتخلص مما ترتب عليه من تجاوزات ومشاكل وعنف واعتداء على الحقوق لن يكون ممكنا إلا إذا تم التعامل مع هذه المسائل كحزمة مترابطة لا تتجزأ.
ثانيا: إبرام عهد أو اتفاق مصالحة شاملة تضم الكل بدون استثناء حتى يمكن تجاوز الآثار المدمرة لصراعات وتناقضات الحرب الأهلية، وبدون شروط ذات طابع سياسى. ذلك هو الضمان الوحيد لتحقيق سلام اجتماعى يضع قواعد العمل الوطنى ويرسى الدعائم التى يستند عليها التوافق.
ثالثا: خارطة طريق جديدة دون تمسك بأى شىء يرتبط بما حققته القوى المختلفة على أرض الواقع مما تعده مكتسبات مشروعة. هذه الخارطة تلعب دور الناظم لمرحلة انتقالية يتم خلالهما الانتهاء من ترتيبات السلام والمصالحة تمهيدا لإجراء انتخابات ديمقراطية بما فى ذلك انتخاب هيئة وطنية لصياغة الدستور، على أن يتم إلغاء القوانين الصادرة والتى تميز بين المناطق والمواطنين بذرائع مختلفة.
إن حكومة الوحدة الوطنية أمام الامتحان ومفتاح نجاحها يكمن فى مدى مراعاتها لهذه الاعتبارات ومعالجة التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية ولن يكفيها الاعتداد أنها جاءت نتيجة حوار سياسى أو أنها تمكنت الآن من إنهاء انقسام السلطة التنفيذية. الطريق أمام الحكومة معبد بآمال وطموحات الليبيين فى الاستقرار والأمن والوحدة والصحة مثلما عبدت طريقها إلى السلطة آلام الليبيين ومعاناتهم لعقد من الزمن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved