الاستحقاقات الانتخابية

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 21 مارس 2021 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

الشعب، أى المجتمع كلّه، هو مصدر الشرعيّة والسيادة الوطنيّة. وهو الذى يوكِّل أشخاصا من صلبه بإدارة الدولة ومؤسسّاتها، ويمنحهم سلطة ذلك.
الدولة ومؤسّساتها وكلّ ما تملكه ملكٌ للشعب، أى ملك عام، وبالطبع ليست ملك القائمين عليها. هم فقط موكّلون بمهمّة إدارة الدولة، أى هم أصحاب القرار لفترة محدودة، وبهدف صون مصالح الشعب وتأمين ازدهاره. وأفراد الشعب ليس مجموع رعايا وإنّما مواطنات ومواطنون لا تمييز بينهم، لهم كلّ الحقّ فى تقييم أعمال السلطة التى انتخبوها وسحب ثقتهم بها وتغييرها.
هذا كلّه قد يبدو بديهيًّا اليوم فى الأنظمة المدعوّة «ديموقراطيّة». لكنّ الواقع لم يكن دوما كذلك، وليس حتّى الآن، عند من يفرِض أنّ هناك شخصا أو حزبا أو مؤسّسةً لهم «حقّ» فى قيادة الدولة والمجتمع دون محاسبة ودون آليّات تؤمِّن التداول على السلطة. لكن ما هو غير البديهيّ، فى الأمس واليوم، هو بالتحديد آليّات التداول على السلطة فى زمن سلمٍ مجتمعيّ كما، وعلى الأخصّ، فى زمن الأزمات أو الحروب الأهليّة.
الإجابة البسيطة على السؤال هى أن تجرى انتخابات نزيهة وشفافّة لتحقيق «الديموقراطيّة». إلاّ أنّ الديموقراطيّة ليست فقط انتخابات، وليست أسمى من الحريّات وحقوق الإنسان. والانتخابات لها إشكاليّاتها.
***
الانتخابات تتمّ ضمن منظومة سياسيّة معيّنة. مثلا أن تكون رئاسيّة أم برلمانيّة، ضمن ضوابط فصل السلطات المفترضة بين مكوّنى الدولة الرئيسيين، التنفيذى والتشريعى. والممسِك أو الممسكون بالسلطة يحاولون بالتأكيد تجيير هذه المنظومة للاستمرار فى الحكم. ما يعنى ضمنيّا أنّ أيّ مشروع لتغيير السلطة عبر الانتخابات يعتمد أيضا على ذات المنظومة. ففى حال النظام الرئاسيّ، كما فى سوريا مثلا، يتطلّب التداول على السلطة إعطاء الثقة لرئيسٍ تنفيذيّ جديد تناط به مهمّة ليس تغيير النهج فحسب، بل أيضا وأساسا وتحديدا مهمّة تغيير المنظومة ذاتها. أمّا إذا كان النظام برلمانيّا، كما فى لبنان، حيث يسود الاتفاق اليوم بعدم صلاحيّة المنظومة السياسيّة، فيتطلّب التغيير أيضا إمكانيّة انتخاب أغلبيّة واضحة تناط بها مثل هذه المهمّات. هذا فضلا فى الحالتين معا، أنّ التداول على السلطة يتطلّب تغيير أسس انتخاب السلطة التشريعيّة التى تمّ بالأساس تفصيلها بغرض خدمة السلطة السياسيّة القائمة.
التداول على السلطة عبر الانتخابات ليس أمرا بهذه البساطة. هذا عدا أنّ عناصر أخرى تدخل فى الاعتبار. فهناك مصالح اقتصاديّة تتدخّل لدفع الانتخابات، مركزيّةً كانت أم محليّة، فى اتجاهٍ معيّن لخدمة مصالحها عبر المال السياسيّ. وهناك مصالح الدول الإقليميّة والدوليّة التى تتدخّل أيضا عبر المال السياسيّ مباشرةً أو عبر تنظيمات مجتمع مدنيّ أو الإعلام ــ وأضخمها قامت بالضبط لخدمة مصالح الدول المعنيّة ــ ووسائل التواصل الاجتماعيّ. هذا عدا الصراعات حول الهويّات المذهبيّة والعشائريّة والثقافيّة التى يغذّيها أساسا أصحاب المصالح بكلّ مشاربهم. فما معنى شفافيّة ونزاهة انتخابات فى هذا المناخ، خاصّة إذا ما كانت هناك أزمة معيشيّة تُعطى الأولويّة لسبل العيش على الحريّة.
السبيل العمليّ البديل للانتخابات للتداول على السلطة قد يكون عبر منظومة حكم انتقاليّة غير منتخبة، مجلس تأسيسيّ مدنيّ أم مجلس عسكرى، كما بات الطرح قويّا اليوم فى سوريا أو أيّة صيغة أخرى. هذا أيضا يتطلّب إعطاء ثقة لشخصيّات أو لقوى سياسيّة أو مؤسساتيّة بمهمّة إحداث التغيير. وبالطبع يختلف أمر هذه الثقة كثيرا تبعا لآليّات الانتقال عنفا أم سلما. ذلك أنّ الانتقال السلميّ يعنى توافق أغلب فئات المجتمع وكذلك مؤسّسات الدولة، وخاصّة منها العسكريّة والأمنيّة، على هذه الثقة وعلى هذا التغيير. هذا التوافق المطلوب يكون أكثر ضمانا لمسار تغييرٍ يستحقّ الثقة من أيّ تغييرٍ يفتح بابا لدورة عنفٍ جديدة ضدّ المجتمع برمّته أو ضدّ فئة مجتمعيّة.
خيار التغيير فى تونس كان سلميّا، إلاّ أنّ الانتخابات لم تأتِ إلاّ بعد فترة. ما يعنى أنّ المرحلة الانتقاليّة قامت على توافقات بين القوى السياسيّة ومؤسّسات الدولة. قد يُمكن انتقاد الكثير منها، إلاّ أنّها حمت البلاد من تفجّر صراعات الهويّات فيها. لكن رغم حدوث الانتخابات يُمكن قراءة الاستعصاء السياسيّ والاقتصاديّ والمجتمعيّ الحالى أنّ البلاد ما زالت.. فى مرحلة انتقاليّة. أمّا خيار التغيير العنفيّ فى ليبيا فقد أتى ليس فقط من التدخّلات الأجنبيّة، بل لأنّ القوى القائمة، وعلى غرار السلطة البائدة، لم تكن أصلا تبحث عن توافقات انتقاليّة، بل خاطرت بتفجير المجتمع والدولة على السواء. حتّى بعد أن أقيمت فيها أوّل انتخابات.
إحدى الإشكاليّات الكبرى فى تحوّلات المنطقة العربيّة أنّ الطروحات السياسيّة لم تحمل سوى شعارات الإطاحة بالأنظمة. دون الإجابة حقيقةً على السؤال حول ما يجب إقامته من «نظام» ضمن مشروعٍ واقعيّ يتمّ التفاوض عليه مع جميع فئات المجتمع ومع مؤسسات الدولة. لقد جرى إبراز شعار الديموقراطيّة عبر الانتخابات كى يأتى حكم «الأغلبيّة»، دون بذل جهدٍ كبير لتوضيح ما يُمكن أن يعنيه هذا. ولم يأتِ فشل التغيير فقط من لجوء السلطة الحاكمة إلى العنف للحفاظ على ذاتها، بل أيضا وخاصّة من أنّ كثيرا من حاملى التغيير لم يتمكّنوا من الحصول على ثقة فئات كبيرة من المجتمع لإحداث التغيير المنشود، على الأقلّ لتحييد مؤسّسات الدولة لجعله ممكنا.
***
التداول على السلطة عبر الانتخابات يعنى بالدرجة الأولى تفاوضا مع قوى المجتمع ومع مؤسّسات الدولة وحتّى مع السلطة الحاكمة أو جزءٍ منها حول مشروعٍ يجد فيه الجميع مكانّهم ويمنحونه ثقتهم لتحقيقه. والتداول السلميّ على السلطة، عبر سبيلٍ غير الانتخابات، هو أيضا تفاوضٌ حول مشروع مع ذات القوى والمؤسّسات.
مسئوليّة هذا التفاوض لا يُمكن تحميلها على الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو «مؤتمرٍ دوليّ» إلاّ إذا أقرّت شخصيّات وقوى البلاد أنّها عاجزة عن التفاوض وعن كسب ثقة المجتمع، وأنّها أقرّت أنّ دولا أخرى ستحكم مصيرها وصراعاتها، وإن من خلف ستار إلى ما لا نهاية. وبما أنّ الانتخابات هى الطريق لشرعنة حكم، فإنّ الدول ستأتى بتغيير سيكون لتحقيق مصالحها.
من المتوقّع غالبا ألاّ ترغب سلطة قائمة بالتفاوض، الذى يعنى حوارا حول سلطة القرار والمسئوليّات والمشروع. ولكن ما هو أخطر يبقى غياب التفاوض ضمن المجتمع حول مشروع المستقبل الضامن للجميع. بالتالى ما يهمّ للانتقال نحو الشرعيّة الشعبيّة هو بالتحديد ذلك التفاوض المجتمعيّ والمؤسساتى الواسع حول المشروع والشخصيّات والقوى التى تحملها والتى تستحقّ ثقةً واسعة. المهمّ أن يحدث هذا الانتقال عبر الانتخابات.. أو مجلس عسكريّ.. أو غير ذلك.
والجهود التى تبذل حول ترسيخ هذه التوافقات، فى مشروع عهدٍ وطنيّ مثلا، هى التى تبقى كأسس للمجتمعات مهما حصل. هكذا بقى دستور 1920 لسوريا رمزا تاريخيّا لتوافق مجتمعيّ لا يُمكن تجاوزه رغم الانتداب ورغم عهود الاستبداد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved