هذا المناخ الملبّد بالغيوم

سليمان عبدالمنعم
سليمان عبدالمنعم

آخر تحديث: الأحد 22 أبريل 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

ما كشفت عنه أحداث الآونة الأخيرة يوحى بأن ما تواجهه ثورة 25 يناير ليس فقط طول مسيرتها وتعقد حركتها، فالثورات الكبرى فى التاريخ حدث لها هذا وأكثر. ما تواجهه الثورة اليوم هو حالة من الغموض تبعث على الارتياب. ثمة مناخ ملبّد بالغيوم ونقص الشفافية وانعدام الثقة لدى الجميع فى مواجهة الجميع. لم نعد نعرف ما إذا كان الحاصل فى مصر اليوم هو كل المشهد الحقيقى أم أن وراء هذا المشهد ما وراءه؟ ثمة شعور يراود الكثيرين أن ما نشهده الآن على مسرح الأحداث ليس هو كل فصول القصة، بل هناك فى الكواليس الجانبية فصول أخرى مؤثرة على «دراما» المشهد العلنى. توحى تفاصيل هذا المشهد على مدى أكثر من عام بأن ما لا نعرفه قد يكون أكثر وربما أخطر مما نعرفه.

 

لم يكن ترشح اللواء عمر سليمان لمنصب الرئاسة غير أحد هذه التفاصيل التى زادت المشهد غموضا وارتيابا. كان طبيعيا أن يثير ترشحه المفاجئ بعد فترة اختفاء بعض التساؤلات. فمن الذى أوعز إليه بالترشح؟ ومن يموّل حملته الانتخابية؟ ما سر «تى شيرتات» الدعاية التى قيل إنها أرسلت من بلد عربى؟ وهل حقا كان هو مرشح المجلس العسكرى أم مرشح رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق أم تأخذنا الظنون السوداء لأبعد من ذلك؟ على أى حال جاء قرار اللجنة العليا للانتخابات برفض أوراق ترشحه لخطأ إجرائى ليحول دون اشتعال ثورة جديدة كادت تضع أوزارها، لكن مازالت الأسئلة السابقة تترك ظلالها حول المحاولات المستميتة لإعادة إنتاج النظام السابق. وهو نظام يبدو أن الجزء المطمور منه أكبر بكثير من الجزء الظاهر. وهذه قضية أخرى.

 

●●●

 

المجلس العسكرى أسهم بدوره فى خلق حالة الغموض وافتقاد الشفافية. اختلفت النظرة إلى المجلس العسكرى عبر مراحل ثلاث. فى مرحلة أولى بدا المجلس العسكرى فى عيون المصريين بطلا وقديسا إلى حد مطالبة البعض (خارج مصر) بترشيح الجيش المصرى لجائزة نوبل للسلام. فى مرحلة ثانية وبسبب التنسيق الملحوظ بين المجلس العسكرى وجماعة الإخوان المسلمين إضافة لأسباب أخرى تقدمت الشكوك وتراجعت الثقة على خلفية جدل «بيزنطى» حول تأصيل موقف الجيش من الثورة وهل كان حقا مع مطالبها أم أنه اتخذها وسيلة لإسقاط رأس النظام السابق ليس إلا؟ ثم فى مرحلة ثالثة نعيشها الآن بدا المجلس العسكرى متردد الفعل غامض النوايا فتضاربت مواقفه وقراراته. ربما كان هذا انعكاسا لضغوط الشارع وما تنذر به من مخاطر، فأراد المجلس العسكرى أن يتفادى الصدام الكبير ولحظة الفوضى الشاملة. أنتج هذا المناخ حالة من الغموض الدستورى التى كان مثالها الأبرز نص المادة 60 من الإعلان الدستورى الذى خلق مشكلة اللجنة التأسيسية بدلا من أن يحلها، ثم جاء الحكم القضائى الأخير ليبطل قرار تشكيل اللجنة التأسيسية بحسبانها قرار إداريا وليس عملا تشريعيا، وهذا موضوع آخر مازال يحتاج إلى تفصيل وتدقيق.

 

هل كان الغموض الذى شاب بعض نصوص الاعلان الدستورى مقصودا لمزيد من إرباك المرحلة الانتقالية أم كان نتيجة لعدم خبرة سياسية وقانونية؟ ليس المهم الآن معرفة الإجابة، الأهم هو أن يتبدد مناخ الغموض السائد. ولكى نتمكن من تفسير هذا الغموض فإن علينا أن نتساءل بكل وضوح لماذا يخشى المجلس العسكرى من تسليم السلطة إلى رئيس مدنى؟ ثمة افتراضات ثلاثة أولها أن المجلس يخشى عقب العودة إلى ثكناته أن يتعرض إلى مضايقات وملاحقات قانونية على غرار ما حدث لرءوس النظام السابق. يعزز من هذا الافتراض ما جهر به ثوار ومثقفون وسياسيون فى مناسبات مختلفة من وجوب مساءلة المجلس العسكرى عن إدارته للمرحلة الانتقالية. لم تخل هذه التصريحات من نزق وربما حماقة استثارة مخاوف المجلس، ونسيان دوره الحاسم فى تأييد الثورة فى أدق اللحظات وأحلكها. ثم إن هذا الكلام الخطير فى هذا التوقيت الدقيق لا يطلق هكذا على عواهنه. لكنها عادة المصريين الأزلية فى أن يروا حكامهم أطهارا وأشرارا بين ليلة وضحاها. لم يخرج أحد ليبدد مخاوف المؤسسة العسكرية وليشترى مصر بكلمة تعقل وحكمة. الافتراض الثانى أن المجلس يودّ الحصول للمؤسسة العسكرية على اعتراف دستورى بمكانة خاصة. وهذا أمر يصعب قبوله مهما كان التقدير لدور الجيش المصرى مقارنة بدور الجيش فى دول عربية أخرى، فقد خلقت الثورة واقعا جديدا وأصبح الشعب المصرى يستحق دولة مؤسسات حديثة يكون فيها دور الجيش الصحيح والوحيد هو الدفاع عن حدود البلاد. أما الافتراض الثالث فهو رغبة الجيش فى عدم المساس بمصالح مؤسساته الاقتصادية. كان ومازال ممكنا معالجة هذا الأمر بما يحترم المصلحة العليا للدولة ويراعى هذه الخصوصية للمؤسسة العسكرية وذلك فى إطار من الشفافية والخضوع للقانون وبحيث لا تكون هناك مؤسسة تعلو أو تناطح الدولة. هذه كلها قضايا ومخاوف صنعت مناخ الغموض السائد فى بر مصر.

 

●●●

 

لم يدخّر هذا المناخ الغامض جماعة الإخوان المسلمين، وهو الفصيل الذى قدّم التضحيات على مدى عقود طويلة لا لشىء سوى لأنه يؤمن بعقيدة ويدافع عن فكرة. بعض المواقف التى اتخذتها جماعة الاخوان المسلمين لم تكن مفهومة ولا مقنعة. هم يعرفون أن هناك انطباعا واتهاما لدى الكثيرين بخروجهم عن اصطفاف الجماعة الوطنية فى مناسبات سابقة. ثم تعزز هذا الاتهام بعد تحللهم من التزام سابق بعدم تقديم مرشح رئاسى. لم تنجح جماعة الإخوان المسلمين فى إقناع عموم المصريين بمبررات تغيير موقفهم. كان واضحا أنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد شعورهم بأن شيئا ما يرتب فى الخفاء. كانت الإشارة لأحداث 1954 فى تصريح غريب (وربما أرعن) للمجلس العسكرى، ثم رفض تغيير حكومة الجنزورى والإيحاء (الغريب أيضا) بأن إسناد الوزارة لحزب الأغلبية ليس أمرا محتما فى ظل دستور محتمل قد يأخذ بالنظام الرئاسى الذى قد لا يوجب ذلك، ثم تجييش القوى السياسية على امتداد البلاد كلها لإبطال تشكيل اللجنة التأسيسية المنوط بها صياغة مشروع الدستور.. كل هذا كان سببا كافيا لحزب حاز الأغلبية البرلمانية لأن يقلق على مكاسبه السياسية. وهى مكاسب لم يحصل عليها بتزوير الانتخابات أو استغلال النفوذ أو الفساد أو قمع المعارضين واعتقالهم!

 

لكن على جانب آخر مازال حزب الحرية والعدالة يعانى من بعض الغموض وعدم الشفافية فى مجمل حركة جماعة الإخوان المسلمين. ومازالت العلاقة بين الجماعة بطابعها الدينى والدعوى وبين حزب الحرية والعدالة بنهجه السياسى تحتاج إلى قدر كبير من الشفافية وتتطلب جهدا أكبر لتحديد الإطار السياسى والقانونى المنظم لها. قد تكون الفترة التى انقضت على إطلاق حزب الحرية والعدالة فترة قصيرة لم تتح للإخوان بعد الفرصة لبلورة إطار العلاقة بين الجماعة والحزب، لكن الجماعة مدعوّة بشدّة لمزيد من الابتكار القانونى والسياسى لوضع إطار مقنع ينظم العلاقة بينها وبين الحزب. والحزب بدوره مدعو على صعيد الممارسة لمزيد من الانفتاح على القوى الوطنية لكى يبدد فكرة أن الجماعة هى الحزب، والحزب هو الجماعة.

 

●●●

 

يقول الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور

الحمدُ لنعمته أن أعطانا هذا الليل

صمتُ الأشياء وسادتنا

والظلمةُ فوق مناكبنا

سترٌ وغطاء

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved