صعوبة المسار الإجبارى

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 21 أبريل 2012 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

قديما فكر الرومان فى إقامة معبد كبير للأخلاق والشرف، إلا أن الحبر الأعظم نصح الحكام بتشييد معبدين، فمعبد واحد مهما اتسعت مساحته لا يمكن أن يفى بالغرض ولا أن يسع قيمتين مقدستين كالأخلاق والشرف، وبالفعل تم بناء معبدين متجاورين، على أن يكون الاتجاه إجباريا من الأخلاق إلى الشرف، فالمعمارى أراد أن يبعث برسالة مفادها: لا يمكن أن تنال الشرف دون ممارسة الأخلاق. والشرف يعرف عادة على أنه ذلك الإحساس الذى يسمح للفرد بالحفاظ على احترامه لذاته وللآخرين، فماذا لو اختل هذا الشعور؟ ماذا لو لم تلتزم جماعة بتعهداتها؟ أو لم يعد الجندى مقتنعا بضرورة السمع والطاعة أو بمدى أخلاقية وعدالة ما يقوم به؟ هنا يكون المأزق الذى قد يتمرد عليه البعض، ويرتضيه البعض الآخر مع تقديم التنازلات وتحمل الأعباء النفسية الملازمة لقراره.

 

●●●

 

فى استطلاع للرأى قامت به إحدى الجهات الغربية، تفاوت تصور العينة حول المواقف التى تمثل قمة الشرف، فاعتبر 51% من العلماء المستجوبين أن قمة الشرف هى التخلى عن اكتشاف مهم بسبب ضرره للإنسان، فى مقابل 48% فضلوا التوصل لاختراع يفيد العالم، وكان الرياضيون أكثر فروسية إذ فضل 73% مساعدة صديق فى محنة خلال مسابقة واكتفى 25% منهم فقط بحلم الفوز على المنافسين، أما العسكريون فقد جاء رأيهم على النحو التالى: 42% يتمنون الانتصار فى المعركة، و57% يرفضون دخول حرب غير عادلة.. فهؤلاء مهزومون حتى من دون صراع، كما هو حال العديد من الجنود الأمريكيين الذين عادوا من العراق وأفغانستان.. اكتظت بهم عيادات الصحة النفسية والعقلية واتجه بعضهم لمعاقرة الخمر تضميدا للجراح، كما تشير التقارير المنشورة فى الصحف على غرار النيويورك تايمز. «لم تكن هناك أسلحة دمار شامل بالعراق، حتى لو كان لدينا شك فى وقت من الأوقات إلا أن هذه الأوهام تبددت الآن. هذا الصراع كان منذ بدايته ظلما فاضحا، لا أحاول أن أتنصل منه، فأنا مذنب على أية حال، حتى لو كان جرمى أقل بكثير من جورج بوش وجماعته»، جاء هذا الاعتراف على لسان بطل رواية الكاتبة البلجيكية ــ أميلى نوتونب ــ «نوع من الحياة» بوصفه جنديا أمريكيا فى العراق يبعث لها بخطابات دون معرفة سابقة على سبيل الإعجاب والبوح بما يحدث فى بغداد، وكيف أصبحت البدانة والأكل بشراهة المهرب الوحيد له وللعديد من زملائه. يتحدث عن «بلاغة السمنة» التى تعنى الرفض والتمرد على القادة، فزيادة حجمه تشى بضخامة الخسائر الإنسانية من الجانبين. الشرف العسكرى لم يعد له معنى، والصراع غير المبرر وضع الجندى فى مأزق أخلاقى لم يعد يحتمله، وهو يعلم أن الجنرالات الكبار وأتباع الرئيس هم من يجنون الثمار.. لم يستطع الفرار فهرب إلى مرض البوليميا والاكتئاب، معلنا من خلال رسائله للكاتبة أنه غير معجب بشجاعة من يتحملون الفظائع دون الوقوع فى المرض، فهذه ليست شجاعة بل بلادة ونقص فى درجة الحساسية، على حد قوله. الشىء نفسه تكرر أيضا فى العراق بصورة مختلفة تحت حكم صدام حسين، حين ضرب جيشه مثلا مدينة حلابجة بالأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا ودمر البنية التحتية لكردستان العراق.. الفظائع التى ارتكبت بأمر قادته لا تمت للشرف العسكرى بصلة ووضعت جنده فى المأزق ذاته، فلم يعد لديهم ما يواسيهم حين يصابون معلنين فى فخر أنهم ضحوا فى سبيل قضية عادلة أو لحماية أهلهم، لم يعد الناس فى الشارع يبادلونهم نظرة الإعجاب التى تعودوها من قبل، وذلك مؤلم للغاية ويدعو للاكتئاب والحزن والأسف.. فلم يلتزموا المسار الإجبارى باتجاه الشرف، مرورا بالعمل الأخلاقى، أو بالأحرى لم يلتزم قادتهم بذلك، وكانت النتيجة أن فقدوا مصداقيتهم والأسطورة التى صاحبتهم.. وهى أسطورة نسجها الزمن، ولم يكن من السهل أن يراها الناس تتحطم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved