سؤال اليوم التالى لنهاية حرب أوكرانيا.. هو سؤال ما قبلها

طارق فريد زيدان
طارق فريد زيدان

آخر تحديث: الخميس 21 أبريل 2022 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

تتعرض الولايات المتحدة إلى ما يُشبه عملية القضم المتدرج لنفوذها فى النظام العالمى، لكن ذلك لا يُبدل حقيقة أنها ما زالت القطب الأول منذ قررت النزول إلى بر أفغانستان فى العام ٢٠٠١ ثم بر العراق فى العام ٢٠٠٣، فكان أن تسيَّدت دوليا وانطوت حقبة الحرب الباردة.
ينطوى خلال أيام الشهر الثانى على حرب روسيا الأوكرانية، وبالتالى يرتسم أمامنا مشهد يحتاج إلى تقييم. فى الجيوبوليتيك، هذه حرب متوقعة. والأهم أنها حرب مفروضة بقوة توالى الأحداث والوقائع وليست حرب ضرورة وإرادة وتخطيط مدروس بكل حرف من حروفها. الرئيس فلاديمير بوتين اختار توقيت الرصاصة الأولى لكنه بكل تأكيد لا يملك وحده قرار الرصاصة الأخيرة. هذه معركة لن ترسم موقع روسيا فى عالم الغد، بل نحن أمام حرب سترسم بنتائجها مستقبل النظام الدولى، تبعا للأطراف المتصارعة: روسيا من جهة والولايات المتحدة والناتو من جهة ثانية.
ثمة فرق بين النفوذ والقوة. أنتَ تملك نفوذا أى قدرة على التأثير فى صانعى السياسات والقرارات والأحداث. دولة تملك نفوذا أى أنها تقرر فى سياسات وشخصيات هذا البلد أو ذاك. أما القوة فهى القدرة على فرض التأثير والإرادة على الآخرين. الأولى طيف ناعم كالعطر والثانية وجود يبلغ حد الوقاحة والصلابة. لا تزال واشنطن صاحبة نفوذ بما تملك من قدرات هائلة فى المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والإعلامية.. والأهم تلك المطبعة التى تكلفها وزارة الخزانة والاحتياطى الفيدرالى بطباعة العملة الخضراء والمقدرة حاليا بنحو عشرين تريليون دولار كفيلة بقلب العالم صعودا ونزولا.
تتعدى المسألة ماذا تملك من سلاح وصواريخ وطائرات وتقنيات.. لم يعد الأمر عقدنا اتفاقا أم لا. المسألة أكبر من ذلك بكثير. العلاقة بين القوة الأمريكية والنظام الدولى ليست مباشرة. بينهما علاقة مركبة وطردية. نتيجة هذه تؤثر على تلك. فائض القوة الأمريكية جعل أمريكا تحتل المرتبة الأولى فى النظام العالمى منذ ثلاثة عقود من الزمن، غير أن ذلك ليس كافيا للمحافظة على زعامة نظام وقيادته. تآكلت السيولة الأمريكية كلما كان يفيض منسوب التأثير الصينى والروسى.. إلى أن وصلنا إلى لحظة أوكرانيا. من ينظر إلى الخريطة لا يستطيع إلا أن يتفهم فلاديمير بوتين. المصالح الجيوسياسية تحكم نظرته ويسرى ذلك على الأمريكيين.
هناك الآن معركة لن يتردد الخصمان فى استخدام أى سلاح يمتلكانه، بما فى ذلك النووى (برغم صعوبة تصور ذلك) لأن التراجع لا يعنى هزيمة شخص هنا أو هناك. رئيس دولة أو حزب أو دولة عميقة. الهزيمة هى لنظام عالمى. من سيمتلك القوة الصلبة الكفيلة بحفظ النفوذ والتأثير.
• • •
لا يستطيع الغرب تغليف حرب أوكرانيا أيدولوجيا. بوتين ليس شيوعيا. هو ابن المنظومة الرأسمالية. لا يمكن استخدام «بعبع الإلحاد» لتحريض المؤمنين عليه فى العالم الكاثوليكى أو الأرثوذكسى أو الإسلامى. ولذلك، ثمة سؤال بديهى هل تستطيع أمريكا المحافظة على هيمنتها من دون مشروع فكرى جديد؟ القوة ليست ترسانة عسكرية وحسب. تحتاج إلى مشروع فكرى جديد أو قديم. صراع بين نظرتين وليس بين أبناء نظرة واحدة. كانت الحرب الباردة رافدا أساسيا فى تغذية فكرة التفوق الغربى. فى الوقت ذاته، صاغت القوة الأمريكية كثيرا من الأفكار والأيدولوجيات فى سياق الصراع (صراع الحضارات ونهاية التاريخ إلخ..). لكن مع انهيار الصراع بين اليسار واليمين.. ربح الغرب معركة النقاش لكنه خسر الحرب..
هناك أربعة مفاهيم تحتاج إلى المراجعة والتفكير. الهيمنة الأمريكية؛ العولمة؛ النموذج الأمريكى؛ وحركة التاريخ.. هى فى الواقع نظريات صاغها مؤرخون ومحللون على مدار العشرين سنة الماضية متكئين على النصر الذى حققه العالم الغربى غداة سقوط الاتحاد السوفييتى عام 1991. هى فى العمق سياق يمكن تتبعه منذ التوسع الكولونيالى مرورا بالحروب المتعددة له وصولا إلى الاحتلال الأمريكى للعراق وأفغانستان. حكاية دونها التاريخ ثم قرر أصحاب هذا التاريخ أن يقفلوا بابه لأنه ببساطة قد انتهى!
سردية ذكية وممتعة وقت نشوة الانتصار. غير أنها بحساب النتائج عبارة عن فوضى كبيرة على الناس ومصالح الأمم. سرعان ما تبددت هذه النشوة لتتحول إلى طاقة غير بناءة فى إدارة العالم. الأكيد أن فرانسيس فوكوياما أخطأ حين قرر أن التاريخ قد انتهى.
• • •
أربع مفردات مرتبطة بخيط رفيع. ظن البعض أن هذا الربط متماسك فكريا وسياسيا. لكن ما هكذا هى حكاية الإمبراطوريات. قصص البداية والنهاية بينها فصول كثيرة. لربما نعيش اليوم الفصل الأخير من هذه الحكاية. فصل قد يكون بحجم القصة بأكملها. ذلك أن الوقت عند الأمم لا يقاس بعدده بل بزخمه وكثافة أحداثه ونتائجه.
سيسكت المدفع يوما ما. لا توجد حرب حتى آخر رجل. وليس هناك نتيجة تُحقق بأى ثمن. مصير النظام الدولى بات أكثر ارتباطا بهوية القوة الأمريكية وليس باصطفاف حلفائها. مباركة ولادة النظام العالمى الجديد بهذه السرعة غير مفيد. هناك أشواط إضافية. الأكيد أن النظام الدولى الجديد سيكون متعدد الأقطاب. والأكيد أن لروسيا مقعدا فيه. لربما هذا أقصى ما كان يطمح إليه بوتين. المشاركة فى صياغة مصير أوكرانيا يثبت موقع موسكو شريكا أصيلا. سؤال اليوم التالى لنهاية تلك الحرب هو سؤال ما قبلها.
المواجهة بين أمريكا والصين أيضا حتمية. التوقيت من سيختاره وأى شكل ستتخذه الحرب بين «الجبارين». هى معركة أيضا بين الحروب التى ستفضى إلى تبلور صورة النظام الدولى الجديد.
يقلقنى أمر لا أجد جوابا عليه. عندما ولد نظام ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتى أين كان العرب ولمن صفقوا؟ الآن، وعلى عتبة نظام دولى جديد، أين تقف دولنا وشعوبنا؟ ما هى المصالح المفروضة علينا وما هى المصالح التى لنا هامش فى التحرك حولها؟ هل لنا أن نحجز مقعدا فى هذا النظام أم نبقى مجرد متلقفين؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved