خفايا الأزمة في دبى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 21 مايو 2009 - 10:24 ص بتوقيت القاهرة

 منذ اشتعال الأزمة المالية العالمية، هيمنت على اهتماماتى رغبة قوية للتعرف على ما تغير وما لم يتغير فى سلوكيات الناس. عدت أقرأ سيرة الكساد العظيم وردود فعل جحافل العاطلين عن العمل والإصلاحات الأيديولوجية التى دخلت على النظام الرأسمالى وقتذاك.

وبعدها رحت أتابع تطورات الأزمة العالمية الجديدة فى دول الغرب الرأسمالى وفى الصين المزهوة بنموذجها الفريد وفى مجتمعات الاقتصادات الصاعدة وبخاصة الهند والبرازيل وفى بلاد الوفرة النفطية المالية كنيجيريا والجزيرة العربية تحديدا، وعلى هذه الأخيرة ركزت جل اهتمامى خلال الأسابيع الأخيرة، حتى لاحت فرصة المشاهدة على الطبيعة عندما اجتمعت مواعيد عدة مهام أكاديمية وإعلامية فى أيام متقاربة وتقرر موعد السفر. وعلى الفور اشتغلت على وضع خريطة طريق، بنية التنفيذ وليس بنية التسويف كخريطة الغرب لفلسطين، تضمنت أسئلة محددة وقائمة بشخصيات أعرف أنها تعلم وتحسن التقدير ومواقع بعينها للتحقق مما جرى فيها وبها ووثائق ومستندات لعل بعضها يكشف عن حقيقة ما خفى عنا أو عن أهل القرار.

مزودا بالأسئلة وبقراءات تمهيدية ولقاءات مع مقربين خليجيين وخبراء غربيين. بدأت رحلتى بقضاء ساعتين فى مطار القاهرة لم تنفعانى بل لعلهما أربكتا جدول أعمالى. لم أجد فى المطار من يسعفنى بكلمة المرور اللازمة لاستخدام شبكة الإنترنت. مرت الدقائق ثقيلة ليس فقط لأن المقاعد غير مريحة والإضاءة سيئة فى قاعات الانتظار، ولكن أيضا لأن الخدمة كانت بطيئة وفى جانب أو أكثر مزرية والمرطبات غير مشجعة والابتسامات شحيحة. كررت طلب المساعدة فى توصيلى بالإنترنت وكرر الضيف الجالس إلى جانب الآنسة المسئولة عنا أن البحث جار عن الفنى المتخصص وجاء الرد قبل الإعلان عن قيام طائرتى بعشر دقائق.

جاءنى صادما. اليوم الجمعة وقسم هندسة الإنترنت والكمبيوتر لا يعمل فى العطلات الرسمية. عندئذ فهمت السبب وراء علامات الملل والقنوط على وجوه المسافرين من مختلف الجنسيات وأكثرهم يحملون أجهزة كالجهاز الذى أحمله يعتمدون عليه فى أداء واجباتهم أو تمضية أوقاتهم.

ضاعت ساعتان فى مطار القاهرة. واستمتعت بثلاث أو أكثر فى طائرة مريحة وفى رعاية مضيفات مبتسمات وخدمة متميزة. وهبطت فى مطار دبى لنقضى فيه ما لم يزد على خمس عشرة دقيقة، ومنه إلى فندق صغير فى الشارقة فى رحلة استغرقت ثلث المدة التى كانت تستغرقها قبل عام، وللغرض نفسه. كانت هذه الرحلة القصيرة جدا فى حد ذاتها أول إجابة أتلقاها على سؤال عما تغير وما لم يتغير فى سلوكيات الناس فى ظل الأزمة المالية. صحيح أن اليوم كان يوم جمعة. وصحيح أن المطار كان جديدا وقد افتتح منذ مدة قصيرة، ولكن صحيح أيضا ما رأيت وسمعت من سائق السيارة والمرافق المكلف باستقبالى ومرافقتى، وهو أن عدد الناس الذين يتحركون عادة بسياراتهم انخفض، البعض غادر البلاد والبعض أصبح يفضل المكوث فى منازله توفيرا للنفقات أو مكتئبا.

***

ذهبت إلى دبى، لأول مرة، قبل ثلاثين عاما. كنت فى صحبة صديق أدين له بإتاحة فرصة التعرف بعمق على هذا الجزء من العالم العربى، والاقتراب جدا من «صناع» هذه البلاد ومؤسسى بنياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. اجتمعنا وقتها برأس العائلة المالكة لإمارة دبى. وكانت دبى، جوهرة العولمة الآن، عبارة عن عدد من الدكاكين وبيوت بدائية التشييد والمعمار. وكانت، وهى الآن المدينة التى تفاخر بفنادقها مدينة لاس فيجاس حيث لا يفصل فندقا عن آخر إلا فندق ثالث، تفتقر إلى فندق لائق فوقعت استضافتنا فى فندق فى الشارقة، الإمارة المجاورة لإمارة دبى.

ولا يزال الفندق قائما وإن تراجع مستواه وتغير اسمه. أبلغونا أن الاجتماع برئيس العائلة سيعقد بمكتبه. وإلى مكتبه توجهنا وكان الظن أننا سنلاقيه فى مكتبه بدار الحكومة. لم يدر بخلدنا أن سمو الأمير يمارس مهامه فى إدارة شئون الحكم والتجارة ورعاية المواطنين من مكتب فى ميناء دبى، وبالتحديد من غرفة لا يوجد بها سوى أريكة من جلد تعب الزمن منه فأهلكه وثلاثة مقاعد من الجلد الهالك نفسه، ومكتب خشبى قديم فى ركن بعيد من الغرفة يجلس إليه موظف هندى وأمامه دفتر كبير وهاتف يرن كل خمس دقائق. دارت الأسئلة حول فلسطين وإسرائيل وحال العالم العربى ومستقبله فى ظل وفرة مالية مفاجئة. سألنا أيضا عن علاقات إمارة دبى بالإمارة الأكبر فى الدولة الاتحادية وعلاقاتها وشقيقاتها بالدولة الأعظم فى الجزيرة العربية.

أذكر أن أمير الإمارة لم يرد على سؤال واحد أشتم منه رائحة السياسة. كان صريحا منذ البداية إلى النهاية. أكد أنه تاجر وأن السياسة يتركها للسياسيين وأشار بيده إشارة ذات مغزى إلى مهدى التاجر مستشاره السياسى، وقد صار بعد ذلك، سفيرا فى لندن وكان صاحب شخصية مثيرة بأفعاله وثرواته. أما الأسئلة «البريئة» حسب تعبيره، أى البعيدة عن السياسة فجاءت إجاباته عليها بديعة وصارخة ومنبئة عن الكثير مما تحقق فى عهده أو حققه ولى عهده من بعده. كان حريصا كل الحرص على أن يكون ميناء دبى الميناء الأكثر كفاءة فى كل الجزيرة العربية، ولذلك قرر أن يجلس على هذه الأريكة طوال اليوم يتابع من خلال شباكها الزجاجى الممتد بعرض الغرفة السفن التجارية وهى تمر فى الخور أمامه ويحسب بخبرته وتجربته حمولتها بمجرد النظر إلى عمق غاطسها فى مياه الخور. ومن مكانه على الأريكة وقدماه من تحته يسندان جلسته الممتدة لساعات النهار يبلغ الموظف الهندى الجالس إلى المكتب فى ركن بعيد بحجم الحمولة ليقوم بحساب ما يستحق على قبطان السفينة دفعه فور رسوه حتى لا ينتظر فيعطل مسيرة قوافل السفن الزاحفة من عند الأفق. قال ما معناه إنه سيجعل ميناء دبى الميناء الأكفأ فى العالم ومن ثم مدينة دبى، نموذجا لتحتذيه جميع قبائل ساحل «الإمارات المتصالحة». وأذكر أن ولى العهد، بعد أن صار أميرا قال أمامى إن أباه كان يأخذه كل عام وهو طفل إلى لندن والريف الإنجليزى مشيدا بما يرى وحالما بأن يعيش وابنه من بعده لينقلا بعض هذا التقدم إلى دبى. وأظن أننى لا أبالغ إذا قلت إن كثيرا من أحلام رئيس العائلة تحققت، وإن بثمن باهظ.

***

«هذه ليست الأزمة الأولى ولا الأخطر التى تعرضت لها إمارة دبى فى تاريخها الحديث». هذا ما قاله لى رئيس لعائلة أخرى من كبريات «عوائل» الخليج.
لم يكن سؤالى ينصب على تحديد انفرادية دبى بالأزمات أو انفرادية هذه الأزمة فى تاريخ دبى، إنما كان السؤال يتعلق بردود فعل العائلات الكبرى للأزمة الراهنة، وهى العائلات المستفيدة أكثر من غيرها بالفرص التى أتاحتها العائلة الحاكمة فى دبى على امتداد العقود الأخيرة.

كان سؤالى مشتقا من معلومات وصلتنى تفيد بأن بعض هذه العائلات الأكبر فى الإمارة وإمارات أخرى ألقى باللوم على «البطانة» المحيطة بالأمير، لأنها توسعت فى البناء ومنح القروض والاقتراض والتعتيم على الصفقات وتسهيل أعمال المضاربين.. واتهامات أخرى.. شعرت من لقاءات بأفراد من هذه العائلات وبأفراد فى حاشية الأمير بأن فى كل الحلوق مرارة. كيف يمكن أن يلقى من استفادوا من كرم الإمارة وفيض تسهيلاتها باللوم على الحكام لمجرد أن بعض أعمالهم تضرر نتيجة لأزمة لم ينتبه أحد أو ينبه إلى قرب وقوعها؟

يقول بعض الكبار إن الجميع ساهموا فى بناء دبى النموذج، يستفيدون من نموها ويتضررون من أزماتها. يقولون إن العائلة الحاكمة استفادت بقدر استفادة هذه العائلات وربما أكثر ويقول أصدقاء الحكومة إنها تضررت من الأزمة بقدر ما تضررت العائلات الكبيرة وربما أكثر. وعلى كل حال، يؤكدون جميعا أن الأزمة الراهنة ليست الأولى فى تاريخ دبى. والناس خارج دبى لا يعرفون أن دبى مرت بأزمات مالية لا تقل خطورة وخرجت منها سالمة.

دخلت فى السبعينيات أزمة عنيفة عندما توقفت مراكب دبى عن تهريب الذهب إلى الهند وباكستان، كما جرت العادة عبر العقود والقرون، بسبب الحصار الذى فرضته البحرية الهندية والباكستانية على سواحل الهند وباكستان مما اضطر العائلات الكبيرة، وأغلبها كان يعمل فى تجارة الذهب وتهريبه، إلى تكليف ربابنة السفن بإلقاء الذهب فى البحر لتقوم فرق غواصين ومراكب محلية بالتقاطه وسحبه إلى البر وبيعه ثم تسديد ثمنه إلى التجار فى دبى.. هذه التعقيدات تسببت فى أزمة كبيرة أصابت كل عائلات دبى وأسواق الذهب. وفى الثمانينيات وقعت أزمة المناخ الشهيرة فى الكويت، وعلى غير ما هو معروف كانت دبى السوق الفعلية التى جرت فيها إقامة مشروعات صناعية وتجارية وهمية على الورق وتسويق أسهمها «الخائلية» وسنداتها فى الكويت، قضت هذه الأزمة، كما يذكر أهل الخليج، على ثروات إماراتية وكويتية وسعودية تقدر ببلايين الدولارات. وخرجت دبى متحملة خسائر فادحة وعندما احتلت العراق الكويت فى أوائل التسعينيات، اهتزت كل أسواق الجزيرة العربية وانتشر الخوف بين المستثمرين وأصحاب رءوس الأموال، وسقطت دبى فى دوامة أزمة خطيرة أودت بعشرات البلايين من الدولارات.

وخرجت دبى بأضرار مادية هائلة وبعد فترة قصيرة استعادت عافيتها كما فعلت فى أعقاب الأزمتين الأخريين.

يقول بعض الكبار إن دبى ستخرج من الأزمة الراهنة سالمة كما خرجت من الأزمات السابقة بفضل تقاليد التكافل بين العائلات الكبرى فى دبى والعائلة الحاكمة، ولكن هذه المرة نشأ رأى عام يطالب باتخاذ إجراءات لترشيد سياسات الاستثمار والاقتراض والتخلص من عناصر معينة تسىء إلى شخص الحاكم. ويقول بعض المحيطين بالحكومة إن لدى الحكومة مرارة شديدة من انتقادات بعض أفراد فى العائلات الكبرى لسياساتها وأساليب تعاملها مع الأزمة رغم أن الحكومة خصصت مبالغ هائلة لتحفيز النشاط الاقتصادى اقترضت جانبا منها من الحكومة الاتحادية فى أبوظبى، واستفادت منها بالدرجة الأولى العائلات الكبيرة.

ومع ذلك يبقى طعم المرارة فى حلق الأمير نفسه وحكومته حادا ونفاذا، بسبب انتقادات من جهات أخرى، لم أكن أعرف إنها ستكون بالنسبة للمسئولين هى الأهم بين كل الانتقادات التى تناقلتها الألسن داخل الإمارة.

***

لا أشعر بالراحة أو بالرضا عندما أتلقى دعوة للاجتماع وحدى أو مع آخرين بمسئول كبير جدا. أعرف أن مسئوليات المسئول الكبير جدا لابد أن تكون هى الأخرى كبيرة جدا، وأن المدعوين إلى الاجتماع المقرر فى ساعة بعينها قد يضطرون للانتظار ساعة أخرى أو أكثر حتى ينتهى المسئول الكبير جدا من أداء وظائفه الأهم أو الطارئة. لم يحدث لى من قبل على كل حال أن سمحت لنفسى بالانتظار أطول مما أستطيع تبريره، ولكنه حدث هذه المرة. وكان الانتظار بالفعل طويلا لم يتململ أحد أو يعترض. ولم يغادر أحد قاعة الانتظار إلا للتدخين ولثوان معدودة. وانتظرت، غير متململ، بل على العكس متشوقا، إذ جئت للقاء سعيا وراء إجابة عن سؤال بعينه، وقد حانت لحظة الحصول عليها، بل ومع كل دقيقة انتظار كنت أسجل ملاحظة أو كلمة شكلت جميعها فى نهاية اللقاء إجابة كاملة، بل لعلها الإجابة التى توقعتها.

دخل الأمير كعادته بشوشا، ولكن للمدقق والمجرب لم تكن البشاشة المعهودة. كان أغلب الحاضرين ممن لهم صلة بالإعلام العربى وكان غضب المضيف عليهم واضحا واللوم لهم فاضحا عندما بدأ بعضهم، كعادته كل مرة، توجيه أسئلة يعرف مقدما الإجابة عنها، قال الشيخ إنه لم يأت ليجيب عن أسئلة وإنما ليسأل. هكذا بادرهم وهكذا وضعهم فى مأزق. لم يسمع إجابة واحدة مفيدة عن سؤاله عن رأيهم فى أسباب الحملة التى شنتها أجهزة الإعلام فى الغرب ضده شخصيا وضد دبى النموذج ودبى المستقبل وضد العائلة المالكة فى أبوظبى عندما نشرت الميديا الأمريكية صورا عن تعذيب جرى فى قصر يملكه أحد أكبر الكبار فى العائلة. انتفض من قال إنها العنصرية الغربية المعتادة ضد العرب والمسلمين. وقال آخر بحماسة إنها الغيرة من نجاح دبى. إلا أن أحدا لم ينتبه إلى أن الرجل يعرف الأسباب وأنه كان يتوقع أن الإعلاميين العرب كافة، وبخاصة الجالسون حوله وفى ضيافته، كان يجب أن يتصدوا لهذه الحملة خاصة أن عددا كبيرا منهم يعمل فى الغرب ويعايش أوساطه الإعلامية وتربطه بإعلاميين غربيين علاقات متشعبة.

إلا أن لا أحد تصدى وبدا الإعلام العربى وكأنه كالغربى شامت أو فى انتظار أن تقع الكارثة وتنفجر «فقاعة دبي» التى سخر منها الإعلام الغربى طويلا. شعرت بإحباط الرجل وخيبة أمله فى هذه القمم الإعلامية التى تصور ذات يوم أنها ستحمى قلاعه وإنشاءاته التى شيدها فى اليم والبر. شعرت مرة أخرى بهذا الإحباط وخيبة الأمل وأنا أمر على ما كان يطلق عليه المدينة الإعلامية الأعظم فى العالم العربى، وربما فى الشرق الأوسط، وقد اختفت لافتات متعددة من أسطح مبانى هذه «القلعة» الإعلامية. لم أعرف تماما هل انسحبت مع الأزمة، أم أن دبى خاب أملها فيها فكفت يدها عنها فأغلقت أبوابها ورحلت؟.

جرى الحديث فى الموضوع ذاته فى جلسة حضرها أصدقاء حريصون على مستقبل دبى حرصهم على مستقبل كل إنجاز عربى فى أى ميدان من ميادين العصر. قيل فى هذه الجلسة إن الأمير غاضب بالفعل من أداء الإعلاميين العرب، خاصة هؤلاء الذين «عطف» عليهم واستفادوا منه فوائد جمة، ولكنه غاضب أكثر من مواقف عواصم عربية معينة، سلك بعض المسئولين فيها سلوك الشماتة أو تأخر فى عرض الدعم، وكان قادرا، أو وجه اللوم بزعم أو حجة أنه نصح فى السابق ولم تأخذ دبى بنصيحته.

أما عن مواقف الإعلام الغربى، فقد سمعت رأيا يتداوله عدد لا بأس به يقول إن الإعلام الإنجليزى كان الأقسى والأعنف لأن دبى خدشت كرامة الإنجليز عندما نصبت نفسها عاصمة لسباقات الخيل ومالكة لأجمل الخيول وأروعها، وهذه كانت احتكارا للأرستقراطية الإنجليزية قبل أن ينافسهم عليها أو يشاركهم فيها أفراد فى الطبقات الخليجية الحاكمة.

وانبرت سيدة فرنسية تدافع عن دبى بقولها إنها لم تفاجأ بالحملة الغربية على دبى، فالغرب لم يقبل يوما ولن يقبل فى أى يوم أن تصل الاستثمارات العربية أو الاختراق العربى حدا يلامس الخطوط الحمراء فى الأمن الغربى. ألم يقف الإعلام الأمريكى، والغربى عموما، موقف عداء صارخ لصفقة شركة موانئ دبى التى كانت تسمح لشركة عربية بإدارة أهم موانئ الولايات المتحدة؟.. وأضاف شاب إماراتى متخصص فى الاقتصاد أن الإنجليز فوجئوا كغيرهم بالأزمة عندما عاد إلى إنجلترا الآلاف الذين سرحتهم شركات دبى يبحثون عن وظائف فى وقت ارتفعت فيه أرقام البطالة فى إنجلترا.

ويدافع أحد الإعلاميين الخليجيين عن أداء الإعلام العربى، خاصة الخليجى قبل الأزمة وخلالها بقوله إن الإعلاميين الخليجيين لم يكن بمقدورهم التنبه إلى خطورة الأوضاع داخل القطاع الخاص، خاصة قطاع الإنشاءات والمصارف، خشية اتهامهم بالقذف أو بإثارة البلبلة، خاصة أن عقوبة هذه الاتهامات غالبا ما تكون مبالغا فيها.
يدافع أيضا بالقول بأن القطاع الخاص يعمل فى سرية وبعيدا كل البعد عن الشفافية، وهو الأمر الذى تسبب فى فداحة الكارثة وضخامة الفضائح التى انكشفت. كذلك لا يجوز إنكار أن الصحافة الاقتصادية فى دول الخليج كما فى العالم العربى بأسره ضعيفة وغير مؤهلة للتعامل مع أزمات على هذه الدرجة من الخطورة. وقد أسعدنى بحق أن أسمع سيدة مسئولة عن ملف بالغ الأهمية فى حكومة الإمارات تدخلت لتعلن أنها تستثنى الصفحات الاقتصادية فى صحيفة مصرية ناشئة وتضع آمالا كبيرة عليها، وأشارت ناحيتى باعتبارى من «الشروق». وأضافت أن المشكلة الحقيقية تكمن فى أن عددا كبيرا من الإعلاميين العرب، وخاصة بين المسئولين عن النواحى الاقتصادية، يقيمون علاقات «غير صحفية» مع رجال الأعمال، مع العلم بأن الكل يعرف أن اندماج الصحفى بصانع الخبر يؤدى عادة إلى نتائج وخيمة على الجانبين، الصحافة والاقتصاد.

***

يتداول الرواة فى قصص كثيرة سلوكيات المغتربين والعاملين الأجانب فى دبى خلال الأزمة. هناك قصص سمعتها تتردد فى بيروت والقاهرة وتأكدت فى دبى من صحتها كقصة السيارات التى تركها أصحابها فى ساحة مطار دبى وعلى زجاجها الأمامى اسم وعنوان البنك الذى قام بتمويل قرض شرائها وقد رحل أصحابها دون أن يدفعوا بقية أقساطها. تأكدت أيضا من قصة مغتربين كثيرين، خاصة من المصريين والعرب، انتهزوا فرصة تشجيع الحكومة الناس على الاقتراض لتحفيز النشاط الاقتصادى فاقترض كل منهم نحو مائة ألف درهم وغادر البلاد البعض قدم استقالته والبعض لم يكلف نفسه عناءها. وينقل عن بعضهم القول إنهم جاءوا إلى الإمارات ليدخروا ما يعادل هذا المبلغ أو يزيد. قضوا سنوات، آخرها كانت سنوات تضخم رهيب وارتفاع فى الإيجارات استهلكت مدخراتهم، ولذلك هم ينتقمون من التضخم ويقترضون قرض التحفيز ويرجعون عائدين إلى بلادهم.

ويتناقل أصحاب المطاعم وأماكن التسلية والفنادق الشكوى من أن أعمالهم لا تسير على ما يرام، رغم جهود الحكومة فى إقامة المؤتمرات والمهرجانات وسياسات الإقراض وتشجيع الاستثمارات. ويتوقع أغلبهم مزيدا من التعقيدات والمشكلات الاقتصادية وربما زيادة فى معدلات الجريمة والسرقات وأعمال النهب المنظم قبل أن تستقر الأمور وتعود الأمور إلى طبيعتها. يتوقعون كذلك أن يكون شهر يونيو القادم حاسما، فالمدارس والجامعات تبدأ عطلاتها الصيفية، وكثير من المغتربين قرروا الرحيل فور بدء هذه العطلات، الأمر الذى سوف يؤثر سلبا على النشاط الاقتصادى فى دبى خلال الصيف.

***

لدى مغادرتى الفندق الذى أقيم فيه المؤتمر واستضافنا خلال أيام الانعقاد، فكرت أن أتجول فى أنحائه ومرافقه وضواحيه. أوحت لى هذه الجولة التى سبقت رحلة العودة إلى مطار دبى المريح للغاية وساعات الطيران المسلية للغاية بأن هذا الفندق سيظل علامة فارقة فى تاريخ دبى، فقد نبتت فكرته فى أيام الرخاء والسيولة النقدية الهائلة، وجرى إنشاؤه فى أيام التضخم النقدى وارتفاع الأسعار العالمية، خاصة أسعار الأسمنت والحديد، وبدئ تشغيله فى أوج الأزمة الاقتصادية والمالية.

أقول سيظل علامة فارقة، لأنه فى حد ذاته يجيب عن سؤال يلح كثيرا، هل ستكون هذه الأزمة سببا فى إعلان نهاية دبى النموذج؟ أم ستكون إنذارا ونصيحة لترشيد هذا النموذج وتحسين فرصه فى المستقبل؟ المؤكد فى كل الأحوال، أن دبى، فى ظل قيادة تقرر إن استطاعت الانعتاق من الخضوع لسلبيات العولمة منذ كانت هذه السلبيات السبيل الأسرع لتحقيق عائد أكبر، وأقصد بالسلبيات انتشار منظمات الجريمة وتهريب الأموال وغسيلها وغيرها وتجارة السلاح، وتستطيع فى الوقت نفسه خلق حوافز لتطور «هوية» تكسب بها ولاء المغتربين وحرصهم على دبى، وبإعادة بناء الثقة بين الطبقة الحاكمة وفلول طبقة وسطى صاعدة ومثقفين جدد. دبى بقيادة رشيدة وبحسن صيانة واستخدام بنية تحتية لا مثيل لها وباقية لخمسين عاما على الأقل، قادرة على أن تجدد النموذج الذى ابتدع فكرته الشيخ رئيس العائلة منذ ثمانين عاما أو أكثر بما يتناسب ورأسمالية فى الغرب أقل توحشا وعولمة بإيجابيات أكثر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved