القضية والرجال

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 21 مايو 2017 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

لم يفكر طويلا فيما عرض عليه للتو واتخذ قراره بالانضمام إلى إضراب الأسرى الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية.
بدا كل شىء واضحا وصريحا أمام «أحمد سعدات» ــ أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ أن ينكسر زخم الإضراب وأثره من داخل الأسرى أنفسهم.
كان العرض الإسرائيلى أن تشرع فورا إدارة السجون بمفاوضات معه تخفف الشروط القاسية التى يعانونها فى الأقبية المعتمة.
بكلمات مختصرة قال: «للتفاوض عنوان واحد هو مروان البرغوثى الذى دعا للإضراب ويقوده».
حدث ذلك فى الأيام الأولى من الإضراب ومن بين أهدافه منع أسرى الجبهة الشعبية وفصائل أخرى من الانضمام لأوسع حركة تمرد داخل السجون منذ سنوات طويلة، بما تحمله من رموز ورسائل فى توقيت حرج قد يتقرر بعده مصير القضية الفلسطينية كلها.
فشلت المحاولة وتصاعد الإضراب.
القضية فوق الرجال وأهم من الفصائل.
هذا المعنى الحقيقى فيما استمعت إليه فى بيروت على هامش مؤتمر دولى سنوى يحمل اسم «العدالة لفلسطين» من قيادات الجبهة الشعبية، الذين تلقوا تعليمات «سعدات» بالوقوف الكامل وراء «رمزية مروان البرغوثى» فى دعوته للإضراب.
الرجلان يقبعان منذ سنوات طويلة فى زنازين الاحتلال بلا أمل تقريبا فى أى إفراج.
«البرغوثى» أدخل السجن عام (٢٠٠٢) على خلفية أدواره فى قيادة الانتفاضة الفلسطينية وصلاته الوثيقة بالجناح العسكرى لـ«فتح».
و«سعدات» لقى ذات المصير عام (٢٠٠٦) على خلفية ضلوع الجبهة الشعبية فى اغتيال وزير السياحة الإسرائيلى العنصرى المتطرف «رحبعام زئيفى».
هناك آخرون من بين عشرات آلاف الأسرى قضوا فترات أطول داخل السجون تتجاوز أحيانا الثلاثين سنة، وفى وجدانهم أن هناك ما يستحق التضحية بأعمارهم وحريتهم.
بقدر عدالة القضية الفلسطينية تكتسب التضحيات معناها.
وقد كانت واحدة من أسباب تراجع تلك القضية ــ رغم عدالتها ــ صراعات الفصائل بما تحمله أحيانا من نظرات ضيقة وحسابات صغيرة.
فى اللحظة الراهنة ثمة تنافس شبه معلن بين بعض الفصائل على من يقدم التنازلات أكثر من الآخر دون أن تكون هناك تسوية على شىء من الجدية تضمن وقف الاستيطان الإسرائيلى، أو الانسحاب من الأراضى المحتلة منذ عام (١٩٦٧).
فى اللحظة الراهنة لا يتبدى على مسارح الأحداث من هو جدير بالحديث باسم عدالة القضية الفلسطينية وعذاباتها سوى هؤلاء الذين يعانون الأسر الطويل.
المعنى السياسى فى إضراب الأسرى أهم من أية مطالب بتحسين أوضاعهم داخل السجون الإسرائيلية.
بالتوقيت فإن هناك من ارتفع صوته بـ«الأمعاء الخاوية» ضد توحش سلطة الاحتلال، وكان الصوت مسموعا وملهما للشعب الفلسطينى كله وأمام العالم.
فى الصوت الواهن دوت الحقيقة، أن هناك شعبا يعانى تمييزا عنصريا، يقتلع من أراضيه وينكل بحقوقه المنصوص عليها فى قرارات دولية، وأن المشاحنات المتوقعة بين بعض فصائله إياها أكثر استعدادا لتقديم التنازلات المجانية لا تليق بأعدل القضايا فى التاريخ الإنسانى المعاصر.
لصمود الوهن قوة الإلهام، وهذا ما تحتاجه فلسطين الآن، أن تثق فى نفسها وعدالة قضيتها وقدرتها على كسب الضمير الإنسانى إلى صالحها.
عند تحطم سور برلين عام (١٩٨٩) تزاحمت على المشهد التاريخى نزعتان متناقضتان، الأولى ــ تعلن أن عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة قد بدأ بعد سقوط القطبية الثنائية بتفكيك الاتحاد السوفيتى وتحلل حلف «وارسو» ونهاية الحرب الباردة كما شاعت نظرية «نهاية التاريخ».. والثانية ــ تضغط لإنهاء أخطر أزمتين تمثلان عبئا على الضمير الإنسانى، هما الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا والصراع الفلسطينى الإسرائيلى.
بزخم دولى فى توقيت متزامن بدأت المفاوضات لإنهاء الأزمتين، نجحت الأولى وتعثرت الثانية.
ثمة أسباب كثيرة للفشل الذريع للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، من بينها أن الرجال لم يرتفعوا إلى مستوى القضية، حتى بدا حصادها الأخير فى اتفاقية «أوسلو» نكبة ثالثة بعد نكبتى (١٩٤٨) و(١٩٦٧).
فى البداية جرت مفاوضات معلنة فى مدريد برئاسة «حيدر عبدالشافى» سرعان ما أزيح هو وفريقه بمفاوضات «أوسلو» السرية.
كان من بين دوافع الإزاحة خشية أن تفضى «مدريد» إلى إعادة صياغة للمراكز القيادية بأية سلطة مقبلة.
خذل الرجال القضية واتسع مجال التنازل والسباق إليه، وكان الثمن فادحا، أو سلاما بلا أرض ــ بتعبير المفكر الفلسطينى الراحل «إدوارد سعيد».
بالتوقيت نفسه ــ رغم اختلاف الظروف والتعقيدات التى لا تقاس على الصراع العربى الإسرائيلى ــ نجح حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى فى التوحد خلف راية واحدة وقيادة واحدة لخصها «نيلسون مانديلا»، الذى كان مسجونا بـ«جزيرة الشيطان» لسبع وعشرين سنة، اختفت صورته تماما، ولم يعد أحد يعرف الصورة التى قد يبدو عليها باستثناء أسرته ومحامييه.
لم يكن «مانديلا» زعيما متوجا لحركة النضال الإفريقى لإلغاء الفصل العنصرى، فقد أدخل السجن فى شبابه على خلفية اتهامه بالعمل المسلح.
كان صوته مسموعا ومؤثرا لكنه لم يكن فى صدارة القيادة.
هذه حقيقة تاريخية اعترف بها الزعيم الإفريقى الكبير فى ذروة قوته.
قبل سنوات من التفاوض بدا لقيادات «المؤتمر الإفريقى» فى الخارج أن قضيتهم فى حاجة إلى إحياء جديد يذكر العالم ببشاعة الفصل العنصرى.
من الأفكار التى ناقشوها بجدية تلخيص القضية فى رمز يطالبون بالإفراج عنه، ويكون الإفراج بذاته عنوانا على بدء كسر القيود عن الرجل الأسود.
لم يكن الاسم الوحيد الذى طرح وجرى اختياره رمزا للحملة الدولية من بين أسماء عديدة وفق مواصفات جرى الاحتكام إليها تحت شعار واحد: «افرجوا عن نيلسون مانديلا».
ولم يكن فى التخطيط العام أن ذلك يؤهله للتفاوض باسم شعبه لإنهاء التمييز العنصرى، وأنه فى لحظة تاريخية بعينها بعد نهاية الحرب الباردة والبحث عن حل للأزمة فى جنوب إفريقيا سوف يرتفع برمزيته إلى مستوى الموقف التاريخى.
عندما نجح الأسير «مانديلا» فى التوصل إلى اتفاق قبله «المؤتمر الإفريقى» وأفرج عنه عام (١٩٩٠) أخلى المجال أمامه تماما للتقدم التنظيمى، أسند إليه أولا موقع نائب رئيس المؤتمر، ثم أسند إليه ثانيا موقع رئيسه، ورشح بالإجماع لرئاسة الدولة الجديدة.
اللافت فى القصة كلها أن القادة التاريخيين انسحبوا طوعا من تلك المشاهد التى توجت التضحيات والعذابات الطويلة.
بعض الذين انسحبوا إلى ما يشبه الظلال هم بأقل تقدير أنداد للزعيم الجديد، أو أقدم منه فى العمل السياسى.
كانت القضية أهم من الرجال.
لم يكن ذلك هو ما جرى فى القضية الفلسطينية عند لحظة بدء المفاوضات بعد سقوط سور برلين.
إذا كان لى حق الاقتراح لإعادة إحياء أنبل القضايا فى التاريخ الإنسانى المعاصر، فإن التجربة الإفريقية ملهمة وشخصية «البرغوثى» تسمح بالرهان عليه رمزا معذبا للحق الفلسطينى فى لحظة تقرير مصير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved