ذكرى أيام حلوة ومرة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 21 مايو 2017 - 12:25 ص بتوقيت القاهرة

كان من الصعب أن نهرب من حالة النوستالجيا العارمة ونحن نتجول بين شوارع وسط القاهرة لنعيد اكتشاف دور عرض السينما التى يرجع تاريخ معظمها للثلاثينيات والأربعينيات. الرحلة التى استمرت حوالى ساعتين والتى قام بتنظيمها المركز الثقافى الفرنسى بالتعاون مع مختبر عمران القاهرة للتصميم والدراسات «كلاستر» جاءت بمناسبة صدور كتاب جديد بالفرنسية للكاتبة والباحثة، مارى كلود بينار، عن ذكريات فنانين ومشاهدين عاديين مع السينما فى الفترة ما بين 1930 و1980. وهو بعنوان (La sortie au cinema, Palaces et cineــjardins d’Egypte, 1930ــ1980).
حالة دور العرض المتردية فى الثمانينيات دفعت الكاتبة إلى البحث عن شهادات زمن مضى لم يبق منه سوى بعض دور العرض، سواء كانت مغلقة أو طالتها عوامل التعرية، فصارت أطلالا مهجورة وأماكنا تشبه القبور، أو تحولت إلى محلات أحذية وخلافه. الكتاب والجولة كانا وسيلة للولوج إلى المدينة عبر أبواب السينما، وسيلة لتناول تاريخ بلد وناسه من خلال صالات العرض المظلمة. وهى صالات اجتمع فيها العام والخاص، وامتزجت فيها الأحلام والذاكرة، بشكل يستدعى العديد من الصور، وقد داعبت هذه الأخيرة خيالنا طوال الجولة التى اصطحبنا فيها الخبير العمرانى مايكل ميتشيل، المقيم فى القاهرة من عشرين عاما. أرادت الكاتبة أن تعيد تكوين الصورة كما كانت عليه، أن تستدعى المناخ السائد فى مطلع القرن الفائت، حين كانت مصر نموذجا لتعايش الجاليات الأجنبية والثقافة الكوزموبوليتانية، وبالتالى أجرت حوالى ثلاثين مقابلة مع سيدات ورجال من أصول مختلفة، ورتبتها وفقا لتاريخ مولدهم، الأقدم ثم الأحدث، حتى يتسنى للقارئ متابعة الحكاية، وكأنها تروى حكاية السينما فى مصر وكذا تطورات المجتمع.
***
ومارى كلود بينار كانت قد مكثت فى القاهرة أربعة أعوام وانتهت من كتابها فى مطلع التسعينيات، إلا أنها لم تجد ناشرا بسهولة، وفى النهاية أثمرت محاولاتها الدءوبة بعد سنوات، لكن فى هذه الأثناء كان العديد ممن أدلوا بشهاداتهم قد وافتهم المنية: يوسف شاهين، عمر الشريف، مارى كوينى، جاك حسون، أسماء البكرى، عاطف الطيب، صلاح أبوسيف، كل هؤلاء وآخرون يتحدثون بتلقائية عن مقاهيهم المفضلة بعد مشاهدة فيلم لطيف، عن أحيائهم، عن حبهم الأول أو ولعهم بالسينما، ما يعد بقراءة جذابة لتاريخ المدينة.
الكثيرون منهم يوضحون كيف كانت توضع شاشة أخرى إلى جوار شاشة العرض الرئيسية لتظهر عليها الترجمات بلغات عدة مثل الإيطالية والأرمنية واليونانية والفرنسية والإنجليزية، وكيف كان الجمهور يذهب لمشاهدة الفيلم أكثر من مرة للاستمتاع بالأغنيات قبل وجود الكاسيت والتسجيلات الحديثة. أما فى عصر السينما الصامتة، فكان هناك شخص وظيفته الوقوف إلى جوار الشاشة لشرح الأحداث، وبشىء من الخيال قد يضيف إليها أو يطورها كما لو كان مخرجا ومؤلفا، مثلما يروى صلاح أبوسيف مستشهدا بأشهر «حكاواتى» من هؤلاء وهو حسنى الشبراوى الذى كان يعمل بسينما أوليمبيا بشارع عبدالعزيز فى الموسكى. ثم يستطرد أبوسيف إلى تفصيلة أخرى وهى لعب الموسيقى وغالبا البيانو فى فترة الاستراحة، فيذكر مثلا أنه كان من هواة الاستماع إلى المقطوعات الشرقية التى كان يعزفها على البيانو، حسن أبوزيد، وأن الناس كانوا يأتون خصيصا لسينما عابدين حبا فى أدائه.
***
محمد جعفر الذى أسس مع أخيه مصطفى سبع قاعات عرض بداية من العام 1939، بعد أن أوفدهما طلعت حرب لدراسة إدارة السينما والفندقة فى باريس، يصف نافورة سينما راديو المضيئة التى تحولت لنقطة تلاقى يحدد الناس مواعيدهم إلى جوارها، ويصف أيضا كيف كانت راقصات كازينو الأريزونا يقدمن الاستعراضات قبل أوسط العرض للترفيه عن جمهور السينما نفسها، فى حين لم يتعد ثمن التذكرة قروشا قليلة. قبل تأسيس شركة إخوان جعفر كانت تسيطر على دور العرض عائلتين فقط، إحداهما يونانية والأخرى يهودية (رئيسى ومصراتى)، وظل عددها فى زيادة حتى بدأ التدهور مع التأميم فى سنة 1961.
السياسة بالطبع ألقت بظلالها على عالم السينما: بعد ثورة 1952 تم تحديد عدد الأفلام الأجنبية التى تعرض حتى لا تطغى على الأعمال المصرية، كذلك ارتبطت أفلام شارلى شابلن ونوادى السينما الطليعية بالمد اليسارى حيث كانت الأخيرة مكانا لتعرف الشباب على الفن السوفيتى والإيطالى.. إلخ. وعندما كانت هزيمة السابع والستين تغير الجمهور، اكتسحت الدرجة الثالثة ذوقا ومضمونا بالتدريج، كما جاء فى كلام المخرج يسرى نصرالله. ومن وقتها والتغيرات مستمرة صعودا وهبوطا، إلا أن الجمهور المصرى لا يزال محتفظا بعادة واحدة وهى القيام فور انتهاء الفيلم، دون انتهاء الموسيقى ولائحة أسماء فريق العمل أو تترات الختام كما يسمونها، وكأنهم على موعد مسبق مع المجهول.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved