الاقتصاد المصرى واستيعاب الديون الخارجية!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الأحد 21 مايو 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

لعل الدرس الهام الذى يمكن استخلاصه من تجربة المديونية الخارجية للأرجنتين، أن الأساس فى اللجوء للاستدانة الخارجية هو مدى القدرة على تحمل أعبائها الحالية والمستقبلية، فيما يمكن أن نسميه بمعيار «الطاقة الاستيعابية» للمديونية الخارجية. ولأننا نرى أن هذا المعيار يتعين على أى اقتصاد نامٍ وضعه نصب عينيه أثناء بحثه عن مصادر خارجية ملائمة لعلاج عجزه الخارجى، فإننا سنحاول فى هذا المقال استخدامه فى تحليل الوضع الراهن للمديونية الخارجية لمصر وتوقعاتها المستقبلية، فى ضوء توقعات صندوق النقد الدولى لهذه المديونية، فى أعقاب المرحلة الجديدة من الاتفاق القديم للتكيف المالى (لاحظ أن السياسات المنبثقة عن برنامج التكيف المالى تطبق اغلب بنودها منذ العام 1991).
***
بدايةً، وعلى الرغم من وجود بعض التحفظات على مضمون تقرير الصندوق المتضمن لتلك التوقعات، والذى صدر فى شهر نوفمبر من العام الماضى، إلا أن أكثر ما أثار حفيظتى هى توقعاته بشأن تطور المديونية الخارجية خلال فترة تقديم قرضه البالغ 12 مليار دولار (السنوات المالية الخمس من 2016/2017 إلى 2020/2021). ولكى أوضح ذلك، وبالاعتماد على معيار الطاقة الاستيعابية للديون، أطرح خمسة محددات موضوعية لمعرفة حدود استيعاب أى اقتصاد للديون الخارجية، كى تفيدنا فى تقييم توقعات الصندوق لمستقبل الاستدانة للاقتصاد المصرى:
أول تلك المحددات هو مدى الحاجة الحقيقية للديون الخارجية. إذ إن نقطة البداية فى اللجوء للاستدانة الخارجية هى الحاجة الملحة لها لسد عجز قائم فى موازنة الصرف الأجنبى للدولة. يعنى ذلك أنه لا يمكن بحال قبول اللجوء لتلك الاستدانة إذا كان هناك بديل محلى، ظاهرا كان أو كامنا. كما يمكننا رفض اللجوء للاستدانة أيضا إذا توافرت بدائل تمويلية خارجية غير الاستدانة (مثل حالة المنح والدعم الخارجى أو حالة تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر وغير المباشر).
ثانى تلك المحددات هى حالة نمو الاقتصادى الحقيقى وتوقعاته المستقبلية. فكلما زاد معدل النمو الحقيقى للدخل القومى، كلما زادت قدرة الاقتصاد على خدمة ديونه، وقلت الحاجة للمزيد منها فى المستقبل. ولما كانت الديون الخارجية تأتى محملة بفوائد مستقبلية، فإنه من الطبيعى أن تخصم تلك الفوائد من إمكانيات تحقق هذا النمو فى المستقبل.
ثالث تلك المحددات هو معدل نمو الصادرات أفقيا ورأسيا. ذلك لأن تلك الصادرات تعتبر المصدر الأهم للنقد الأجنبى اللازم لخدمة أعباء تلك الديون. وليس صحيحا أن نمو قيمة الصادرات أفقيا كفيلا وحده بزيادة قدرة الدولة على تحمل أعباء الاستدانة، ولكن النمو الرأسى فيها، عبر زيادة نسبة المكون المحلى فى تلك الصادرات، والتحول من الصادرات الأولية إلى الصادرات الصناعية مرتفعة القيمة المضافة، هو الذى يُمكِّن الدولة من خدمة ديونها، كما يجنبها مخاطر الصدمات الخارجية.
رابع تلك المحددات هو معدل نمو الأجر الحقيقى فى الاقتصاد. فكلما نمى هذا الأجر، كنتيجة لنمو الناتج المحلى الحقيقى، وكنتيجة لنمو إنتاجية العمالة المحلية، كلما زادت قدرة هذا الأجر على تحمل نصيبه النسبى من أعباء خدمة الديون الخارجية فى المستقبل. ويرجع ذلك إلى أن الاقتراض الخارجى هو بمثابة ضرائب مؤجلة على الدخل.
خامس تلك المحددات هو موقف الإنتاجية لتلك الديون. فليس من شك أنه فى حالة استخدام تلك الديون بطريقة غير منتجة أو بإنتاجية منخفضة، تقل بالتبعية قدرة الاقتصاد على تحمل عبء الدين الخارجى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحد الأدنى المقبول لإنتاجية تلك الديون يجب أن يتفوق على أعباء خدمتها،حتى يصبح مستوى إنتاجيتها مقبول اقتصاديا.
***
فى ضوء تلك المحددات، وفى ضوء توقعات الصندوق بتجاوز المديونية الخارجية حاجز 100 مليار دولار خلال سِنى القرض (تحديدا مبلغ 102.4 مليار دولار عام 2020/2021)، وبمعدل نمو سنوى فى الاستدانة الخارجية 11% تقريبا (لاحظ أن توقعاته بشأن النمو يبلغ مداها 6% خلال نفس الفترة)، يمكننا التأكيد على أن الاقتصاد المصرى ليست لديه المقدرة على استيعاب هذا الحجم المفرط من المديونية الخارجية. كما يزيد الوضع الراهن للطاقة الادخارية والطاقة الضريبية والجاذبية للاستثمار الأجنبى من ثقتنا فى هذا الرأى.
ودع عنك ما يدعيه بعض أنصار الصندوق بأن علينا النظر إلى أرقام الاستدانة الخارجية وتطوراتها فى إطارها النسبى وليس المطلق، أى فى إطار نسبتها إلى الناتج المحلى الإجمالى. وأن علينا كذلك النظر إلى تلك النسبة فى إطار دولى مقارن، عن طريق مقارنتها بمتوسطات الاستدانة فى الاقتصادات الناشئة المشابهة للاقتصاد المصرى.
وأقول، أنه وإن كانت النظرة النسبية هى أحد أسس علم الاقتصاد، إلا أن اجتزاء تلك النظرة من سياقها، أو إغفال المقارنة بين معدلات نمو الناتج المحلى وفق لتوقعات نفس الصندوق وبين معدلات نمو الاستدانة، سيصيبنا، ولا شك، بخداع النظر.
فمبدأ الحيطة والحذر الذى يتعلمه طلاب الفرقة الأولى فى كليات الاقتصاد والإدارة يكفينا لرفض تلك النظرة التى ينادى بها أنصار الصندوق. فوفق هذا المبدأ نثق فى توقعات الاستدانة ونتحوط ضد توقعات النمو التى تضمنها ذلك التقرير (خصوصا إذ علمنا أن توقعات النمو مبنية على توقعات استثمارية مرتفعة مقارنة بإمكانيات الوضع الراهن). وبالتالى، فإن النظرة النسبية لتطورات المديونية الخارجية لن تقيم علينا الحجة كما يعتقد هؤلاء الأنصار.
أما فيما يتعلق بالمقارنات الدولية، فإن النسبة المثلى للدين الخارجى إلى الناتج المحلى الإجمالى تختلف من اقتصاد لآخر ومن وقت لآخر فى نفس الاقتصاد. ولا يتسع المجال هنا لذكر كل المعايير الموضوعية التى تحدد تلك النسبة فى أى اقتصاد، ومع ذلك فإن معيار الطاقة الاستيعابية للديون، والمستخلص من تجربة مديونية الأرجنتين، يؤيد تحفظنا ضد الزيادة المتوقعة فى المديونية المصرية.
وأخيرا، فإذا كان الاقتصاد المصرى لا يمكنه استيعاب مزيد من الديون الخارجية «الخام»، فإنه، فى المقابل، لديه قدرات كامنة على زيادة الادخار والاستثمار المحلى، وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، وزيادة طاقته الضريبية، بشرط أن تنصرف كل الجهود الحكومية إلى تعزيز تلك القدرات، لا إلى الاستدانة الخارجية.
***
قد يُقال إن الاقتصاد المصرى يعانى الآن من مشكلات عويصة متعددة، فلماذا إذن لا يشغل بالنا إلا تلك القضية؟ أو بمنطق آخر، لماذا استوقفتنا قضية توقعات نمو المديونية الخارجية دون غيرها ونحن تطالع تقريرا بهذا القدر من التحفظات؟
الإجابة ببساطة، هى أن تفاقم الاستدانة الخارجية بدون إجراء الحسابات الموضوعية والدقيقة لزيادتها، يمكنها أن يرهن حاضر أى دولة ومستقبلها للأجانب، أفلا يكفى ذلك ليجعلها أم القضايا الاقتصادية بالنسبة للمهموم مع بلده ومستقبله؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved