«آخر أيام الباشا».. ثقوب فى ثوب التاريخ!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 21 مايو 2020 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

أسئلة هذه الرواية لامعة حقا، فرغم وجود ملاحظات أساسية، كان تلافيها جديرا بأن يضع العمل فى مكانة أفضل بكثير، فإن قارئ رواية «آخر أيام الباشا» لرشا عدلى، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، سيتأمل حتما فكرة الشك فيما هو سائد ومحفوظ من «حقائق» التاريخ، وفكرة العلاقة بين الشرق والغرب التى تسفر فى النهاية عن تنافر، وليس عن تلاق، بالإضافة إلى الحديث عن الشخصيات الهامشية، التى تصنع ما يسمى بالتاريخ من أسفل، بما يضىء جوانب قد لا نجدها فى التاريخ الرسمى، الذى يهتم بالملوك والحكام.
لسنا بصدد كتاب فى التاريخ، وإنما لدينا نص روائى يستلهم واقعة تاريخية مذكورة فى أكثر من مرجع وكتاب، وهى إهداء محمد على باشا فى 1827 زرافة إلى شارل العاشر ملك فرنسا، اصطادوا الزرافة من السودان، وجاءت إلى مصر وعمرها 71 يوما فقط، ثم شحنت بحرا إلى مارسيليا، وكان معها حارسان هما «حسن»، وهو خادم مسيو دروفيتى القنصل الفرنسى فى مصر، و«عطير»، وهو شاب سودانى، اصطاد الزرافة وأشرف على رعايتها فى مصر وفرنسا، وصلت الزرافة إلى باريس فى موكب مهيب، وأودعت فى حديقة النباتات، وسط حفاوة وشغف وانبهار، حتى نفقت بعد 20 عاما من وصولها.
رشا عدلى ساردة لديها حس درامى واضح، اختارت بناء ينتقل فى الزمانين القديم والمعاصر، وجعلت بطلها أستاذا فى التاريخ هو د.جهاد، لقد تمرد على المناهج التقليدية، وقدم كتابين عن آخر أيام محمد على، وعن قصة الزرافة، البناء الجيد جعل من د.جهاد أقرب إلى المحقق الذى يتتبع خيوط حكاية الزرافة وشخصياتها.
قرن ونصف تكثفها هذه الانتقالات المونتاجية الذكية ما بين عامى 2016 و2017 فى الحاضر، وفى الماضى بين عامى 1826 و1827، وهكذا، وفى لوحة واحدة، يجتمع المؤرخ وأبطال التاريخ معا، ويجتمع التاريخ من أعلى ممثلا فى محمد على باشا، وقنصل فرنسا، وسليمان باشا الفرنساوى، والتاريخ من أسفل حيث حسن وعطير، بل وزرافتهما التى لا تقل أهمية عن سفير يلطف الأجواء، ويستميل فرنسا من جديد لدعم محمد على، الذى تحطم أسطوله توا، بعد تدخله فى حرب المورة باليونان.
أتاح هذا البناء أيضا أن تقدم الوقائع من زاوية المؤرخ المحقق د.جهاد، دون أن ينفرد بالسرد الذاتى، إذ يتم السرد من خلال الراوى العليم، الذى يعرفنا مصير حسن، بعد أن فشل د.جهاد فى معرفة هذا المصير، شخصية المؤرخ نفسها قدمت بتفاصيل إنسانية مدهشة، سواء فيما يتعلق بفشله العاطفى، أو بعلاقته مع والده، أو بافتتانه بشخصية محمد على، كتعويض عن أب أبعد ما يكون عن الجسارة.
وشخصية حسن رسمت معالمها بشكل جيد، حيث يتحول من شخص لا يعرف أصلا ولا وطنا، إلى شخص معتبر يجد نفسه جنبا إلى جنب «هوجو» و«دوما» و«شاتوبريان» و«ستندال»، ويكون لقاؤه مع الغرب جسديا أيضا ممثلا فى «مدام شانتال». لدينا إذن ثلاث شخصيات محورية تنتهى إلى الفشل بطرق مختلفة:
من كسر شوكة محمد على، إلى رفض علاقة حسن مع شانتال، ود.جهاد لن يتمكن من إثبات فرضيته بشأن محمد على عمليا، ولن يعرف مصير حسن أبدا، سيكتفى فقط بإثارة الشك، وتحريك المياه الراكدة.
ظلت الملاحظة الواضحة فى أن قصة المؤامرة على حياة محمد على، وقصة الزرافة، لم تندمجا أبدا فى سبيكة واحدة، إذ لا يكفى أن يربط بينهما محمد علي؛ لأنهما لا تقدمان من حيث المعنى نفس الدلالة، كما أن روايتنا عموما، فى تحقيقاتها وشخوصها، تركز على قصة الزرافة، ولا نعرف حكاية المؤامرة إلا فى حوارات د.جهاد.
لقد عرفنا ما بذله فى استقصاء أثر الزرافة، أما فرضياته عن المؤامرة على الباشا فظلت كلاما مرسلا، مستمدا أيضا من التاريخ الرسمى، ولا علاقة لها بقصة الزرافة.
صرنا إذن أمام حكايتين لكل منهما أهميتها واستقلاليتها، إحداهما الأقوى عن الزرافة، والثانية الأضعف عن موت محمد على، ولكنها تستأثر بالعنوان وبالنهاية.
كان الحل بالتأكيد دعم قصة محمد على بشكل أفضل، وإيجاد جسر قوى بينها وبين قصة حسن، ليندمج التاريخ الشعبى والرسمى فى رسم معالم الحقيقة.
ولكننا رغم ذلك أمام رواية مهمة، تطرح أسئلة مؤرقة عن الحقيقة والشك فى التاريخ، فى كل عصر وأوان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved