حكاية المِتر وهبة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 21 مايو 2020 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

أرجع المِتر وهبة كرسيه إلى الوراء ونفخ نَفَسا مشبعاً برائحة الدخان وسكت. كانت خطيبته سهير قد سألته فجأة وبدون مناسبة لماذا اختار أن يتخصص في القانون. سكت لأنه كان يتصور أن الإجابة معروفة بالنسبة لها سلفاً وأن ستة أشهر من عمر علاقته مع خطيبته كفيلة بأن تجعلها تدرك أن كل شيء في حياته كان لابد أن ينتهي به لدراسة القانون، الأب والجد وأبو الجد كلهم دخلوا في نفس الجلباب فلبسوه وتوارثوه وهو بدوره ورثه عنهم ولبسه. ربما كان منطقياً لو أن سهير سألته لماذا فضل المحاماة على القضاء وغيّر قليلا في موديل جلباب الأب والأجداد، وذلك أنه هو ذاته تردد كثيرًا حتى استقر على ارتداء روب المحاماة واختار ممارسة القضاء الواقف. إنه لا ينكر أن عينيه في بعض الليالي كان يغازلها بريق النجوم المتلألئة على وشاح والده المستشار، وكان أحياناً يتمنطق بالوشاح ويروح يتأمل صورته في مرآة الحمام الطويلة ويشعر بالرضا. لكن أسفار الأب وتنقلاته من المنصورة لبنها لبورسعيد لأسيوط كان لها أثر مضاد فهو بطبعه يحب الاستقرار ويكره السفر، أما حين أعير والده للكويت فتلك كانت الطامة الكبرى، حصل وهبة على الشهادة الإعدادية في غياب ولّي أمره، وحوّل أوراقه من مدرسة لأخرى في صحبة خاله، ولم يلتق والده إلا وهو على مشارف الجامعة، لذلك تراه أحب القانون لا القضاء لأن القضاء يباعد ويفرّق الشمل.
***
أساء وهبة الظن بذكاء سهير عندما تخيل أنها تسأله لماذا درس القانون لأنها لا تعرف، وفي الحقيقة فإنها كانت تسأله من باب السخرية بعد أن فاض بها الكيل، فهذا السؤال الذي بدا أحمقا من وجهة نظر خطيبها كان تحويراً لسؤال آخر هو: لماذا لم تترهبن في محراب القانون؟ إن وهبة لا كلام له إلا عن الموكلين والأتعاب والقضايا والطعون والمنصة والنيابة.. تفاصيل لا تعنيها أو من باب الموضوعية لا تعنيها إلا قليلاً. وتدريجياً بدأت تشعر أن الشخص الذي أحبته يتسرب من بين يديها وأن مَن تستمر معه ليس إلا محامي العائلة، حتى مفردات وهبة نفسها تشبعت بثقافته القانونية وصارت غريبة عليها، وهل تنسى اليوم الذي وصف لها فيه شقة المستقبل "بالعين المؤجرة"؟ عين يا وهبة؟ تلعثم واستدرك ثم رد: شقة. كانت أمامها فرصة لإعادة التفكير في ارتباطها بوهبة قبل أن تقع الفاس في الراس وينتقلا من نصف الإكليل إلى الإكليل، لكن كل من حولها اتهمها بالبطر فليس يعيب الرجل أن يحب مهنته. ضاعت صرختها في الوادي .
***
أضيفَ لهذا السبب الأصيل في توتر علاقة سهير بالرجل الذي ارتبطت به سبب آخر هو إصراره على أن يُسمي ابنهما الوحيد يوسف حتى يناديه الناس يوسف وهبة. ظنت أول الأمر أن المقصود كان هو التشبُه باسم عميد المسرح العربي يوسف بك وهبي، لكن زوجها صحح معلوماتها وقال لها إنه يقصد يوسف باشا وهبة رجل القانون ورئيس وزراء مصر لمدة ستة شهور من نوفمبر ١٩١٩ حتى مايو ١٩٢٠. لا.. لا كله إلا هذا يا وهبة حتى اسم ابننا تُقحِم فيه القانون؟ رفضَت فأصر، استأنفَت فنقض، وفي الأخير صارت أم يوسف. قررت سهير بينها وبين نفسها أن ترد اعتبارها، لن يدرس يوسف القانون إلا على جثتها ولن يسير في طابور العائلة مهما كان الثمن، لكن كيف؟ راهنت على سياسة النَفَس الطويل ولم تترك وسيلة تمرر بها ليوسف التمرد على دراسة القانون إلا أتتها: من لبنها إلى حواديتها إلى نصائحها إلى شكواها إلى تحريضها، كل شيء بالمعني الحرفي للكلمة، وسائل شريفة وأخرى غير شريفة، وسائل مباشرة وأخرى غير مباشرة، ونجحت في أن تزحزحه .
***
أرجع المِتر وهبة كرسيه إلى الوراء ونفث دخان سيجاره الكوبي وسأل: لماذا لم يحب يوسف القانون؟ كأن واحدًا وعشرين عاماً لم ينقضوا ما بين سؤال سهير له لماذا تخصصتَ في القانون وسؤاله هو لماذا لم يحب يوسف القانون؟ ومع ذلك فهناك فارق بين السياقين، كانت سهير تعرف إجابة سؤالها أما هو فلا. كل شيء في هذا البيت كان يؤهل يوسف ليتبّع طريق العائلة فلم يتبّع، لكن مَن أدري وهبة أن كل شيء كان يُفتَرَض أن يؤدي لذلك؟ استبعد تماماً أي تأثير مضاد لسهير لأنه يراها سلبية غير ذات تأثير، وفي المقابل انهال على نفسه مؤنباً فلعله قصّر أو اطمأن أو غفل أو استسلم، كاد يُجن. في حديث النفس للنفس كان وهبة يجلس محاطاً بكامل هيلمانه: شهادة الليسانس.. ملفات الموكلين.. المكتبة الكبيرة.. صورته وهو يترافع.. و.. الروب الأسود، لمن يترك كل هذا الهيلمان ولمن تذهب الشهرة والقضايا والمكتبة ولمن يذهب الموظفون؟ غافله سقوط دمعة، ووهبة قليل البكاء. عجبتُ لك يا زمن اليوم هو يوم فرح أو كان يُفتَرض أن يكون، تخرج يوسف من الجامعة وصار رجلاً، استدرك وهبة فوراً.. نعم صار رجلاً لكن ليس رجل قانون، وهناك فرق. انقطع السلسال وما عادت تشهد ساحات القضاء أثراً لعائلته لا وقوفاً ولا جلوساً، رقصت مومياوات العائلة من حوله رقصة الموت وتساقطت النجوم من فوق وشاح سيادة المستشار فوخزت صدره وخزة. في صباح اليوم التالي تصدرت صورة المِتر وهبة صفحة الوفيات يعلوها شريط أسود، نعته زوجته بحُرقة بعريضة رثاء موجعة، فقال الناس وفية وما كانت إلا تعتذر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved