حرب غزة غير المتكافئة والحصاد المر للسياسة الأمريكية فى المنطقة

عزت سعد
عزت سعد

آخر تحديث: الجمعة 21 مايو 2021 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

فى عهد الرئيس الأمريكى السابق اعتمدت الإدارة خطا سياسيا، اعتبر خروجا واضحا وصريحا عن الموقف الأمريكى التقليدى وعن الإجماع الدولى فى العديد من قضايا الملف الفلسطينى، فى مقدمتها القدس والمستوطنات، وهو ما أدى إلى ردود فعل دولية مختلفة عارضت هذه المقاربة وانتقدتها، حتى فى المحافل الدولية كالأمم المتحدة، سعيا إلى تكريس المبادئ الدولية المقبولة بشأن الصراع وآفاق تسويته، وعلى رأس هذه المبادئ الالتزام التام بالقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، وبقواعد وأحكام القانون الدولى وبالأسس المتفق عليها، وفى المركز منها «حل الدولتين لشعبين».
وفى أعقاب تغيير الإدارة وعودة الولايات المتحدة إلى ما اعتبرته «الإجماع الدولى بشأن الصراع الإسرائيلى/ الفلسطينى»، سادت موجة من التفاؤل تعززت بعدم ضم أراضٍ فلسطينية جديدة إلى السيادة الإسرائيلية، ثم استئناف التنسيق الأمنى والمدنى بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية بعد تجميده على خلفية نوايا الضم. كل ذلك رغم أنه لا توجد شواهد على أن ثمة مبادرة سياسية جديدة قد تطرح فى المدى المنظور للدفع بعملية لتسوية الصراع والتوصل إلى حل نهائى له.
ومنذ تولى بايدن فى 20 يناير الماضى، ورغم بعض التصريحات والبيانات الصادرة عن الإدارة، والتى بدت مشجعة، إلا أن التقييم المهيمن على المستويين الإقليمى والدولى هو أن الإدارة الجديدة لا تضع الملف فى سلم أولوياتها، كما لا تبدو أنها معنية باتخاذ أى خطوات عملية بشأنه فى المدى المنظور. ويستفاد هذا التقييم من حقيقة أنه لم يصدر عن الإدارة الجديدة أى ردود فعل على عمليات طرد الفلسطينيات والفلسطينيين من منازلهم وهدمها ومصادرتها وعربدة المتطرفين والعنصريين الإسرائيليين فى الأراضى الفلسطينية ووصولا إلى ما آلت إليه الأوضاع المتدهورة فى القدس الشرقية وقمع الحراك الشعبى السلمى هناك، وفى مناطق أخرى وتفشى ثقافة الكراهية والعنف داخل إسرائيل ذاتها فيما بين الإسرائيليين والآخرين من عرب إسرائيل ثم الحرب الجارية حاليا ضد سكان غزة منذ 10 مايو الجارى والتى أودت بحياة أكثر من 200 شخص حتى الآن، منهم عشرات النساء والأطفال. وكالعادة فشل مجلس الأمن الدولى حتى فى إصدار بيان بإيقاف العدوان بسبب الموقف الأمريكى الداعم لإسرائيل والذى يعتبرها فى حالة دفاع عن النفس، علما بأن واشنطن استخدمت الفيتو فى مجلس الأمن لصالح إسرائيل 43 مرة.
ولا يبدو أن هذه الإدارة مستعدة لاستثمار موارد وجهود سياسية جدية فى هذا المجال خلال الفترة القادمة، حيث تبعث برسائل مفادها أنها فى حاجة إلى بعض الوقت لترتيب البيت من الداخل وتشكيل الطاقم الذى ستوكل إليه مهمة معالجة هذه القضية، فى الوقت الذى تتخبط فيه إسرائيل بأزمتها السياسية الداخلية، بعد أن باتت رهينة فى أيدى اليمين العنصرى المتطرف الذى لا تعنيه عملية السلام أساسا. وعادة ما تشير التقديرات إلى أنه ضمن إدارة بايدن ذاتها هناك عدد كبير من المسئولين السياسيين الذين شغلوا مواقع مختلفة فى إدارة أوباما وكانوا ضالعين فى تناول الملف، وأنهم يعرفون تفاصيله جيدا كما يعرفون، أيضا، جميع الإخفاقات التى منيت بها مبادرات الوساطة المختلفة التى أطلقت خلال تلك الفترة، ابتداء من جورج ميتشل وحتى جون كيرى، ولذلك لا يرغبون الآن فى تشجيع الرئيس بايدن على خوض مغامرة أخرى جديدة. هذا بجانب انشغال الإدارة بمسألة المشروع النووى الإيرانى والعودة للاتفاق الخاص بذلك، الذى انسحب منه ترامب فى مايو عام 2018، باعتبارها القضية الأكثر إلحاحا، وذلك من خلال اتصالات وحوارات تجريها الإدارة مع إسرائيل بمعزل تام عن القضية الفلسطينية.
***
ورغم الممارسات الإسرائيلية الإجرامية فى الأراضى المحتلة من يناير الماضى، وحتى الآن، والتى قادت إلى تفجر الموقف كما نتابعه الآن، وبدلا من أن يدفع ذلك إدارة بايدن إلى تكثيف تدخلها قبل تفجر الموقف، سار بايدن على خطى أسلافه، حيث آثر تجنب الوقوع مرة أخرى فى أزمة حادة فى العلاقات مع إسرائيل، مثلما حدث بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو.
وللأسف الشديد لا يبشر سجل بايدن، عندما كان نائبا للرئيس الأسبق أوباما (2009 – 2016) بأى خير. فبعد فشل محادثات السلام خلال فترة ولايته الأولى، أولت إدارة أوباما اهتمامها الأكبر لمعارضة أى عمل فلسطينى على الساحة الدولية عندما كان الهدف الرئيسى من مثل هذا العمل هو تعزيز حل الدولتين ومعايير السلام المعترف بها دوليا. كما قام أوباما بممارسة ضغوط على الرئيس عباس لتأجيل التصويت فى مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان للمصادقة على تقرير المنظمة العالمية لتقصى الحقائق الذى يوثق جرائم الحرب والجرائم المحتملة ضد الإنسانية التى ارتكبتها إسرائيل وحماس خلال القصف الإسرائيلى لغزة (2008/2009). وفى عام 2011، وفى الوقت الذى ألقت فيه بثقلها لدعم ثورات الربيع العربى، عارضت إدارة أوباما محاولة فلسطين الحصول على العضوية الكاملة فى الأمم المتحدة، والتى كان من شأنها تعزيز الموقف التفاوضى الفلسطينى وإنقاذ رؤية حل الدولتين التى كانت بمثابة سياسة رسمية أمريكية.
ومع تعيينه وزيرا للخارجية فى فترة ولاية أوباما الثانية، عمل جون كيرى مباشرة مع إسرائيل على وضع معايير لاستئناف المحادثات دون أى تشاور مع الجانب الفلسطينى. وبعد تسعة أشهر من المفاوضات التى لم تسترشد بمرجعيات متفق عليها، أنهت إدارة أوباما محاولتها لصنع السلام الإسرائيلى الفلسطينى مع إعلان كيرى عن دعم الولايات المتحدة لسلام بمضامين جديدة أبرزها الشرط الخاص بضرورة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية، مع ما يرتبه ذلك من آثار كارثية على عودة اللاجئين واللاجئات. ورغم العداء الصريح الذى تابعه العالم كله بين إدارة أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلى وخطاب الأخير أمام الكونجرس، ارتباطا بالمفاوضات حول الاتفاق النووى مع إيران، وقع أوباما مذكرة تفاهم مدتها عشر سنوات بقيمة 38 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل، هى الأكبر فى تاريخ الولايات المتحدة.
ومع كل الانتقادات الأمريكية لبناء المستوطنات الجديدة باعتبارها «غير شرعية»، لم تستطع الولايات المتحدة سوى أن تمتنع عن التصويت على قرار لمجلس الأمن أواخر 2016 يؤكد مجددا عدم شرعية النشاط الاستيطانى فى الأراضى المحتلة بما فيها القدس الشرقية.
أما الكونجرس، فلأغلبيته موقف مخزٍ وغير أخلاقى من القضية، سواء كانوا أعضاء جمهوريين أو ديمقراطيين. فنشاط إسرائيل المحموم لبناء المستوطنات لم يكن فى أى وقت محل تعليق من الكونجرس. وظل تركيز هذا الأخير على منع المصالحة بين فتح وحماس من خلال حجب الدعم الاقتصادى لأى حكومة وحدة وطنية، وأقر الكونجرس العديد من القوانين التى تعاقب منظمة التحرير الفلسطينية على التدابير التى اتخذتها الأمم المتحدة، بما فى ذلك الحصول على العضوية الكاملة، و «أى إجراء» تم اتخاذه فى المحكمة الجنائية الدولية. وعلى غرار القوانين السابقة التى تقيد منظمة التحرير الفلسطينية، قدم الكونجرس تنازلا رئاسيا يقضى بأن يشهد وزير الخارجية بأن منظمة التحرير الفلسطينية أعادت المشاركة فى «محادثات جادة» مع إسرائيل. وهكذا، أصبحت شرعية المنظمة فى الولايات المتحدة متوقفة على استمرارها فى عملية سلام فاشلة.
***
الخلاصة هى أن تاريخ الانخراط الأمريكى فى التعامل مع الملف الفلسطيني/ الإسرائيلى اتسم بالانحياز الكامل لإسرائيل وعدم وجود أى إرادة سياسية للتخفيف من المواقف التفاوضية غير المتكافئة بين المحتل وقوة الاحتلال. ولقد رفضت الولايات المتحدة دائما الاعتراف بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطينى والأساس القانونى لمطالبه، مطالبة ــ بدلا من ذلك ــ بأن تخضع المعايير المتعلقة بمسائل مثل الحدود واللاجئين والقدس لمفاوضات ثنائية، وبالتالى استخدام إسرائيل لحق النقض. وعندما تحدثت الولايات المتحدة عن مسألة معايير السلام، كان ذلك لدعم المواقف الإسرائيلية والدعوة إلى المزيد من التنازلات الفلسطينية.
وتُسأل الولايات المتحدة عن فشل جميع الجهود المتعددة الأطراف، ابتداء بالممثل الخاص للتوسط بين إسرائيل والدول العربية، عملا بقرار مجلس الأمن الدولى رقم (242) والذى لم تستغرق جهوده سوى عام واحد، ومجموعة الرباعية الدولية التى أنشئت عام 2002 بمبادرة من الأمين العام للأمم المتحدة بهدف دعم المفاوضات الثنائية والعمل كوسيط، إلا أن واشنطن تولت دور قيادة وتوجيه المجموعة لخدمة أجندتها السياسية الخاصة التى عكست المصالح الإسرائيلية فى المقام الأول، حيث لم تهتم الرباعية كمجموعة بقضايا الوضع النهائى، وإنما بإدارة الشئون الداخلية الفلسطينية مثل مطالبة الجانب الفلسطينى بإنهاء العنف وإقامة الحكم الرشيد... إلخ.
ولقد أدى التأثير الكبير للولايات المتحدة على قرارات الرباعية الدولية إلى التضحية بمعايير الأمم المتحدة، وتجنب ممارسة أى ضغط على إسرائيل أو تحفيز امتثالها لخارطة الطريق والقانون الدولى. وكانت النتيجة هى قيام الرباعية بإغلاق المساحة التى كان يمكن للفلسطينيين العمل فيها داخليا ودوليا.
والحال على ما تقدم، وطالما لا يستشعر صانع القرار الأمريكى بأن مصالحه فى الشرق الأوسط بمنأى عن التهديد فسيظل على انحيازه الأعمى لدولة الاحتلال. لقد أظهرت الحرب غير المتكافئة الجارية فى غزة، وما سبقتها من احتياجات فى القدس الشرقية ضد الاحتلال وممارساته الباطشة أن الشعب الفلسطينى ما يزال مصمما على استرداد كامل حقوقه، كذلك أظهرت الحرب أن هناك قوى عديدة حول العالم تساند الحق الفلسطينى وبقوة، وأن القضية الفلسطينية ما تزال فى صدارة الأجندة الدولية. ويبقى أن نفكر فقط فى كيفية الاستفادة من هذا الزخم والتفاعل مع كل القوى التى أظهرت تضامنها وتعاطفها مع هذا الحق، ومنها قوى لا يستهان بها فى الولايات المتحدة ذاتها وفى أوروبا، وأن ندرك أن ما يجرى فى فلسطين يمثل خطرا داهما على أمن واستقرار كل الدول العربية، وأنه لم يعد مقبولا استمرار الأمر الواقع فيما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلى لفلسطين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved