طبائع الاستبداد.. وقرارات الحرب الخاسرة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 21 مايو 2023 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

طبعا لا يخفى على القراء أن العنوان مستعار جزئيا من كتاب المفكر السورى الشهير عبدالرحمن الكواكبى الذى انشغل بالتأمل فى خصائص النظام السياسى الذى ساد الدول العربية فى عهده فى ختام القرن التاسع عشر. هذا المقال بين أيديكم ينطلق من تحليل الكواكبى ليبحث أثر الاستبداد على صنع السياسة الخارجية فى النظم الاستبدادية التى عرفها العالم بعد قرن وعقدين من الزمن على صدور كتاب الكواكبى فى ١٨٩٩. ويزعم المقال أن خصائص الاستبداد سوف تجعل قراراتها فى شأن الحرب تؤدى بها غالبا إلى خسارة الحروب التى تشنها. الذى يدعو إلى طرح هذه التأملات هو تجربة شن حروب خاسرة حاضرة فى أذهاننا سواء فى وطننا العربى كما فعل صدام حسين بغزوه الكويت فى ٢ أغسطس ١٩٩٠، وكذلك فيما أسماه بوتين عملية عسكرية محدودة ضد أوكرانيا مازالت مستمرة منذ ٢٤ فبراير ٢٠٢٢.
• • •
علماء العلاقات الدولية يفترضون أولا أن دول النظم الديمقراطية لا تحارب بعضها البعض، وأن احتمالات شنها الحرب ضد بعضها البعض أقل كثيرا من احتمالات شنها الحرب ضد النظم الديكتاتورية التى نسميها فى هذا المقال بالنظم الاستبدادية. فعلى سبيل المثال، الطلقة الأولى فى الحرب العالمية الأولى وجهتها القوات الألمانية ضد روسيا فى أول أغسطس سنة ١٩١٤، وكان نظام الحكم فى البلدين نظاما استبداديا، وهناك أمثلة أخرى عن حروب نعرفها جميعا وقعت بسببها الحرب العالمية الثانية. فى هذه الحالات يشن نظام استبدادى الحرب على جيرانه سواء كانت تحكمهم نظم ديمقراطية أو استبدادية. على العكس، تدعى إحدى نظريات العلاقات الدولية أن النظم الديمقراطية لا تحارب بعضها، باستثناء حالات خاصة مثل شن بريطانيا الحرب ضد فرنسا بعد ثورتها فى ١٧٨٩. هذا القيد على شن الحرب ضد دول ديمقراطية لا يتنافى مع شن هذه الدول ذات النظم الموصوفة بالديمقراطية الحرب ضد شعوب خارج نادى هذه الدول لأسباب عديدة.
ولكن ما هى الأسباب التى تجعل احتمال خسارة النظم الاستبدادية حروبها أعلى بكثير من احتمال خسارة الدول ذات النظم الديمقراطية حروبها؟. يجادل علماء العلاقات الدولية أولا أن النظم الاستبدادية أميل إلى الدخول فى منازعات عسكرية مع دول أخرى سواء من جيرانها أو غير جيرانها لأنها تفتقد الشرعية ــ أى القبول الطوعى لشعبها ــ داخل حدودها، ومن ثم فهى بحاجة لشن الحروب لكى تحول الرأى العام فى بلادها عن همومه الداخلية والصعوبات التى قد يواجهها بسبب سياساتها الاقتصادية، أو أن إعلانها الحرب مدفوع برغبتها فى صرف أنظار المواطنين والمواطنات عن تضييقها على حرياتهم، إذ يمكنها إعلان الحرب مطالبة شعبها بالوقوف وراءها لأن الحرب تمثل خطرا وجوديا على دولتهم.
• • •
لكن بمقارنة دول النظم الديمقراطية بدول نظم الحكم الاستبدادية، لماذا تبدو الأولى أكثر ترددا فى اتخاذ قرار الدخول فى الحرب، وأن احتمالات النصر العسكرى فى حروبها يكون أعلى بالمقارنة بالحروب التى تدخلها النظم الاستبدادية؟ قرار الدخول فى حرب ــ النصر فيها ليس مؤكدا مائة فى المائة ــ يجعل قادة النظم الديمقراطية يترددون فى اتخاذ هذا القرار لأنه قد يكلفهم بقاءهم فى الحكم. ليندون جونسون رئيس الولايات المتحدة والذى فاز فى الانتخابات الرئاسية بفارق واسع عن منافسه بارى جولد واتر فى ١٩٦٤ اضطر للعزوف عن السعى للترشح لمدة رئاسية ثانية فى ١٩٦٨ لأن الصعوبات التى عانتها الولايات المتحدة فى حرب فيتنام ١٩٥٣ــ١٩٧٥ أدت إلى اشتعال الاحتجاجات ضد هذه الحرب داخل الولايات المتحدة ذاتها. مثل هذا التقدير لا يحدث فى ظل النظم الاستبدادية، فالصعوبات الاقتصادية التى ترتبت على الحرب العراقية الإيرانية لم تدفع صدام حسين للاستقالة، والهزيمة فى حرب الكويت فى ١٩٩١ لم تثنه عن البقاء فى السلطة اثنتى عشرة سنة بعدها، بل وسعى للبقاء رئيسا للعراق حتى بعد هربه من القصر الرئاسى فى مارس ٢٠٠٣ بعد اكتمال احتلال الولايات المتحدة لوسط وجنوب العراق. وحتى فى حالة سقوط حكم الملك فاروق فى مصر فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، لم تكن الهزيمة فى حرب فلسطين سببه الأساسى، وإن كانت ظروف المشاركة فى حرب فلسطين فى ١٩٤٨ هى التى هيأت لجماعات الضباط الثائرين ضد نظام الحكم الملكى فرصة الالتقاء وبداية تنظيمهم المعروف. كما لم تؤد الهزيمة العسكرية المدوية فى الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة فى يونيو ١٩٦٧ إلى سقوط أى من النظم العربية الثلاث التى خاضتها، وإن كانت قد هيأت الفرصة لتغيير قيادة حزب البعث فى سوريا فى ١٩٧٠ــ١٩٧١، ومع ذلك استمر هذا الحزب ونظامه قابضا على أنفاس الشعب السورى حتى لحظتنا الراهنة.
الخوف من فقدان السلطة، إذن، يدفع قادة النظم الديمقراطية إلى التردد فى خوض حرب لا يضمنون النصر العسكرى فيها، وهو ما لا يدخل فى حساب قادة النظم الاستبدادية، وفضلا عن ذلك يحتاج قادة النظم الأولى التأييد الشعبى لقرار الحرب، والذى يمنح هذا التأييد هو مجلس نيابى خرج عن انتخابات حرة ونزيهة وفيه وجود مؤثر لأحزاب وقوى معارضة لابد من أخذها فى الحسبان، وليس مثل هذا العامل ذا أهمية فى النظم الاستبدادية، فالمجالس النيابية يشكلها الحاكم الأوحد ذاته من خلال حزبه الحاكم أو المسيطر أو أجهزة دولته، والرأى العام فى بلادها رأى مصنوع شكلته قنوات الدعاية الخاضعة تماما لتحكم هذه الأجهزة. وبسبب وجود السلطة التشريعية المستقلة والتعددية الفكرية فى مؤسسات الإعلام خرجت المظاهرات فى بريطانيا احتجاجا على حرب السويس فى ١٩٥٦، وفى الولايات المتحدة ضد حرب فيتنام فى ١٩٦٨ بل وضد حرب العراق فى المدن الأمريكية فى ٢٠٠٣. مثال ذلك لا يحدث فى النظم الاستبدادية، لم يحدث فى العراق على عهد صدام حسين ولم يحدث حتى الآن فى روسيا.
الفارق الآخر بين هذين النوعين من النظم أن قرار الدخول فى الحرب تسبقه فى النظم الديمقراطية مشاورات ودراسات توفر لصناع القرار فيضا من المعلومات تحدد له فرص النجاح أو الفشل فى مغامرة الحرب وتحسب أعباءها والنتائج المترتبة عليها. لم يذكر أحد من القريبين من دائرة صنع القرار على عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أن أيا من هذه المشاورات أو الدراسات قد جرى قبل اتخاذ القرار بإغلاق خليج العقبة أمام السفن الإسرائيلية فى مايو ١٩٦٧. أشار المرحوم صدقى سليمان ــ الذى كان رئيسا للوزراء فى ذلك الوقت ــ أن الرئيس أبلغ اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى، وهى نظريا هيئة السلطة العليا حينئذ، أنه قرر إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية، ولم تعقب ذلك مناقشة لهذا القرار، وكانت اللحظة التالية التى عرف فيها رئيس الوزراء بنتائج هذا القرار عندما شاهد الطائرات الحربية الإسرائيلية فى سماء القاهرة فى ٥ يونيو ١٩٦٧، بعد ثلاثة أسابيع من إخطار الرئيس لقيادات الدولة العليا بهذا القرار. وقد عرفت من بعض الزملاء من أساتذة العلوم السياسية فى العراق أنهم حاولوا إبلاغ الرئيس صدام حسين بأن حساباته قد لا تكون صحيحة بشأن نتائج دخول القوات العراقية إلى الكويت، وعزوف الولايات المتحدة عن مقاومة احتلال قواته للبلد المجاور الغنى بالنفط بدعوى استمرار تأثر الولايات المتحدة فى رأيه بما أسماه عقدة الهزيمة فى فيتنام ولكن الرسول المبتغى لإيصال هذه الرسالة لصدام حسين نكص عن فعل ذلك خوفا على حياته، ففى نظر صدام حسين «ناقل الكفر كافر» ولابد أن يلقى جزاءه. ولذلك لا يستمع الحاكم المستبد لرأى أو لمعلومة تخالف اعتقاداته الراسخة، فهو «العليم بكل شىء» وهو الذى يرى حقائق الأمور.
سبب آخر يدعو قادة النظم الديمقراطية إلى التردد فى اتخاذ قرار الحرب، فهم تعودوا على تسوية الخلافات من خلال التفاوض، وهم بحكم نظامهم القائم على الحوار قادرون على ذلك ومؤهلون له، ومن ثم يحاولون استكشاف السبل لتسوية النزاع أولا من خلال التفاوض حتى ولو كانوا يتمتعون بتفوق كاسح عسكريا واقتصاديا وعلميا. حاولت الولايات المتحدة فى ظل الرئيس جورج بوش الأب التفاوض مع نظام صدام حسين قبل شن الحرب على العراق، وهو ما نصح الزعماء العرب صدام حسين بقبوله، ولكن تمسك طارق عزيز ــ وزير الخارجية العراقى ــ ببقاء القوات العراقية فى الكويت رغم افتقاد التأييد العربى والدولى لذلك، ورغم وجود مئات الآلاف من القوات الأمريكية والحليفة المستعدة لبدء الحرب لإجلاء القوات العراقية عن الكويت.
لكن الحكام المستبدين ليسوا على شاكلة واحدة. بعضهم يدرك أن قرار استخدام القوة فى إدارة مجتمعهم الداخلى يختلف عن استخدام القوة فى المجتمع الدولى، وخصوصا عندما يواجهون دولا لها حلفاء أقوياء، قد يؤدى استخدام القوة ضدها إلى تدخل هؤلاء الحلفاء الأقوياء لصالحها، ومن ثم يكون استخدام القوة فى هذه الحالة محفوفا بالمخاطر، ولذلك لا يستخدمون القوة أو الابتزاز من خلال قدراتهم العسكرية والاقتصادية إلا عندما يكون ذلك مأمونا. وهذا هو نهج الصين ونظامها الاستبدادى فى محيطها سواء مع تايوان، أو فى بحر الصين الجنوبى الذى تتصرف فيه كما لو أن الدول الأخرى التى تملك سواحل طويلة عليه ليس لها أى سيادة، ولكن نظما استبدادية أخرى تمارس القهر فى مواجهة مواطنيها ولكنها تتردد فى استخدام ما قد تملك من قوة فى مواجهة خصومها، فهى أسود فى مواجهة مواطنيها ومواطناتها، ولكنها نعامة فى مواجهة الدول العدوة لها، ولكنها وهى لا تعرف لا فن التفاوض ولا كيفية الاستخدام المتدرج لعناصر القوة التى تمتلكها، تأمل أن يقوم بعض أصدقائها من الدول الكبرى بممارسة نوع من القوة أو الضغط على خصومها نيابة عنها، وهو ما لا يتحقق فى معظم الأحيان، فممارسة القوة أو الضغط على دول أخرى يخضع فى حالة هذه الدول الكبرى لحسابات دقيقة، وهى لا تتبرع بعمل ذلك إحسانا منها على الآخرين، إلا إذا كانت مصالحها الحيوية مهددة، أو أن حساباتها الاستراتيجية الخاصة تغريها بذلك. وهذا هو شأن الدول العربية سواء فى علاقات بعضها المتوترة مع إسرائيل، أو علاقاتهم الشائكة مع بعض دول الجوار الأخرى سواء فى الشرق الأوسط أو أفريقيا.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved