وانتصف العمر.. رحلتى إلى التحرر

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 21 يونيو 2015 - 12:58 م بتوقيت القاهرة

يولد الإنسان مسيرا لا شك، لم يختَر أبويه أو دينه أو محيطه الاجتماعى والثقافى. يرى فى البداية أنها دنيته الطبيعية وأنه محظوظ وأن إرادة السماء اختارته هو دون باقى البشر للنعيم الأبدى حتى لو عانى فى الدنيا.. هكذا أخبره المقربون من ذوى الخبرة، لكنه يدرك تدريجيا أنها قيود أو محددات لمرتبته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فى المجتمع، قد تساعده الظروف على التمرد أو الاختبار أو التحليق مرتفعا فوق ضوابط مجتمعية لم يخترها، وقد لا تساعده فيستسلم أو حتى يقرر أن يكون هو نفسه أحد كهنة المعبد، معبدطقوس وتقاليد ومحددات حياته الضيقة والواسعة أيضا. فهذا كاهن معبدالدولة، وذاك كاهن التفسير الحصرى للتعاليم السماوية، وثالث هو المسئول عن تزاوج الدين بالتقاليد بالمال بالسلطة، ورابع هو كاهن علاقات القوة والتراتبية المجتمعية، هناك كهنة للمعابد الصغيرة وآخرون للمعابد الكبيرة والترقى من هنا لهناك عملية معقدة وشديدة الهيراركية وتتوقف بالقطع على مقدار الطاعة والصبر والالتزام بالطقوس وربما بعض الذكاء بشرط أن يكون الأخير لخدمة المعبدلا للتمرد على طقوسه.

***

السطور السابقة تمثل رؤيتى المبسطة للحياة فى خمسة وثلاثين عاما مرت على وجودى فى هذه الدنيا ولا أعلم إن كان نصيبى فى الحياة أنا أرى مثلها فى المستقبل. كنت من المحظوظين الذين ساعدتهم الحياة على التمرد، على التحليق مرتفعا عن القيود، على أخذ فرصة للخروج من العالم الضيق بكهنته المخلصين للسلطوية نحو العالم الأرحب. فى هذا العالم هناك كهنة أيضا لكنهم لا يسيطرون، بل ويتعرضون لمنافسة شرسة وإزاحة من مجموع طاقات بشرية فجرها العلم والثورات التكنولوجية فحولت البشر إلى سادة حقيقيين لأنفسم وسخرت موارد المجتمع وطاقاته لخدمتهم هم لا لخدمة المعابد ولا الكهنة، بل واضطر الأخيرون إلى الانزواء لممارسة طقوس رمزية فقط لمن أراد وذهب بإرادته الحرة فاختار من اختار وأبى من أبى.

خمسة وثلاثون عاما أدركت فيها أنه لا قدسية لبشر، كلنا ضعفاء، كلنا نخبئ أكثر مما نظهر، كلنا محدودون بخبرات ومحددات شكلت وعينا واستيعابنا، كلنا متحيزون لأفكار أو لأشخاص، كلنا ضعفاء نحو من نحب، كلنا ندين بالفضل المادى أو المعنوى لآخرين فيهم من يطالبنا برد الجميل حتى لو كان ضد مبادئنا فنضطر مجاملين أو نتمرد وندفع الثمن، ومنهم من يتركنا طلقاء فتظل ذكراه فى قلوبنا إلى الأبد. لا أعلم كم من الحماقات ارتكبت، ولا كم من المخجلات فعلت، ولو قمت بعدها لكرهت نفسى، ولكنى أهدئ من روعى فأقول لنفسى إنى مجرد بشر زائل وهم أيضا، أضحك باكيا حينما أجد أحدهم يمدحنى بشدة معددا مزاياى مثنيا على مثاليتى وأقول لنفسى.. مسكين.. لو علم ما فعلته منذ نصف ساعة فقط لغير رأيه قطعا.

أتذكر حينما حصلت على درجة الدكتوراة وعدت إلى بلدى فصمم الأهل والأقارب والجيران على نعتى أولا بالدال. ونادانى آخرون بالخبير.. خبير؟ هل تعلم عزيزى المواطن أن الحصول على درجة الدكتوراة هو مجرد بداية الطريق للعلم الحقيقى الذى لا منتهى له؟ ألا تعلم أنها فى معظم الأحوال فى بلادنا درجة وظيفية تؤهلك أحياننا لتكون كاهننا جديدا؟ وأنك لو رفضت عرض كبير الكهنة لترسيمك دخول المعبدفقد جلبت لنفسك الشقاء والاتهام بالجنون أو بالعمالة لمعابد أخرى؟ بل واتهمك الأقربون بالمثالية أو السذاجة أو كلاهما، فكيف تتمرد على فرصة أفنى البعض فيها عمره منتظرا ولم تأتيه؟ أو جاءته وقبلها لبضعة أشهر ضاربا بتاريخه ومبادئه عرض الحائط؟ مساكين!

***

أشعر بالشفقة على بعض طلابى وهم يبحثون عن «مثل عليا» لأن المجتمع أقنعهم أنه لابد وأن يكون لهم مثل أعلى. ولم يخبرهم المجتمع قطعا أنهم فى الواقع يبحثون عن «كاهن أعلى» لترويضهم على طقوس المعابد لتقليل فرص التمرد. تقول الحكمة «تقع المشكلة حينما تكون صورتك أكبر من مضمونك». فأسأل نفسى فى ثلاثة عقود ونصف العقد عشتها فى هذه الحياة كم من البشر قابلت صورته السوقية أكبر من حجمه ومهاراته الحقيقة؟ لا أتذكر فهم كثر، ومن هنا تأتى نكسة المجتمعات المتخلفة التى تقدس بشر خاوٍ من المضمون وتنصبهم كهنة للمعبدحتى ينهار على رءوس الجميع إلا الكهنة أنفسهم مما عودوا أنفسهم على الهرب فى التوقيت المناسب.

على عكس الأساطير المتداولة، لا تبنى الأمم على يد الأبطال المخلصين ولكنها تبنى على يد البشر المتواضعين الذين يعرفون قدر أنفسهم وحدود مقدرتهم ويسلموا بضعفهم ونقصهم ويؤمنوا بغيرهم من البشر بلا تفضيلات طائفية أو نعرات طبقية، معظم هؤلاء مات غير مشهور ولا محمول على الأعناق لكنهم ماتوا راضين عن أنفسهم وعن ما قدموه فى حدود قدراتهم وطاقتهم لمجتمعاتهم فنعم الراحلون هم. أما هؤلاء الذين يعتقدون القداسة والتفرد والحكمة فلا يتذكرهم التاريخ إلا بكل سوء وسخرية من سذاجتهم المفرطة.

خمسة وثلاثون عاما أدركت فيها أن البشر نوعان، البشر الموظف والبشر الطموح المجتهد الجاد. الأول مرتاح البال، مجرد ضيف على هذه الأرض لكنه لا يترك أثرا بعد الرحيل لأنه عاش مستسلما لكل القيود والحواجز فأخذ قوته من الحياة ورحل. أما النوع الثانى فهم ممن «يعمرون الأرض» بلغة القرآن الكريم، ضيوف الأرض لا يواجهون تحديات كبرى ولا يفضلون التفكير المركب ويبحثون عن الحلول السهلة بل وقد يحصلون على مكاسب جاهزة، أما معمرو الأرض فيواجهون التحديات ويدفعون الأثمان نتيجة مواقفهم المركبة وبحثهم عن الحلول الصعبة، ولكنهم لا يزايدون بمواقفهم، فهذه إرادتهم الحرة وخياراتهم الواعية وعليهم أن يدفعوا الثمن فى صمت ورضاء.

خمسة وثلاثون عاما تمكنت فيها من معرفة الله، هذا الإله الذى لم أره ماديا ولكنى أشعره بفطرتى وأنفاسى، عرفته إلها أرحم وأعدل بكثير بعيدا عن كهنة الدين ومحتكرى التفاسير والمتحدثين الرسميين باسمه، خلقنى كما خلق غيرى. خلق مليارات قبلنا وسيخلق مليارات بعدنا لنتقابل ونتعارف ونتوارث ونتبادل المعارف والخبرات اللازمة لتعمير الأرض، لا لنعاير بعضنا البعض بمن سيدخل الجنة ومن سيدخل النار. خلق الله الإنسان موهوبا والأخير صنع الفن والجمال والشعر والأدب والموسيقى فكيف يحرمهم الكهنة؟ خلقنا الله وسيضمنا إليه يوما ما وأؤمن إنه لن يحاسبنا إلا بما كسبت أيدينا فى حدود معرفتنا وطاقتنا وخبراتنا وحظوظنا فى هذه الحياة الصعبة.

***

خمسة وثلاثون عاما أنظر إلى جسدى فأجده قد تغير وتبدلت ملامحه، وأنظر إلى عقلى فأجده قد تطور وأصبح يرى الأمور بشكل أكثر تعقيدا وتشابكا. أنظر إلى مشاعرى فأجدها قد أصبحت أكثر نضجا، أما ذاكرتى فقد أصبحت مزدحمة بالأحداث والأفراح كما الأطراح. لم أعد أتذكر كم صديقا أو مقربا شابا أو كهلا ودعته فى المقابر، لكنى أعرف أن الموت لم يعد بعيدا كما كنت أراه قبل زمن، أنظر إلى أحكامى على البشر وتصرفاتهم فأجدها أصبحت أكثر مرونة وتسامحا وتفهما وتعاطفا، فأسأل نفسى من أين يأتى بعض المنتمين للأجيال الأكبر بهذه القسوة فى الحكم على البشر؟

رحلتى فى الحياة حتى الآن وقد بلغت ما يشار إليه مجازا «بمنتصف العمر» هى رحلة تحرر، التحرر ليس انحلالا كما يصفه ضيقى الأفق من كهنة المعابد وأتباعهم، ولكنه انحياز للعقل، انحياز للانسانية، انحياز للأرض انتظارا واجتهادا وطمعا فى عدل السماء. التحرر هو تمرد على علاقات قوة مصممة لخدمة الكهنة لا لخدمة البشر، هو محاولة لإعمال العقل والنقد والتحليل والمقاربات والمقارنات نحو شق طريق طويل وشاق للتنمية والتقدم بعيدا عن الدروشة والتواكل.

لا أعلم إن كانت الأقدار ستكتب لى خمسة وثلاثين عاما أخرى فى الحياة، ولكن أتمنى وقت الرحيل أن أكون ممن عمروا الأرض وسعوا نحو تحرير البشر وتمكينهم، قد أنجح أو أفشل، أحسن التصرف والتقدير أو أسيئه، لكنى سأجتهد وسأدعوا الله ما استطعت أن يقبضنى بشرا ناقصا لا كاهننا يدعى الكمال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved