رمضان شهر صناعة الإنسان
شوقي علام
آخر تحديث:
الأحد 21 يونيو 2015 - 8:20 ص
بتوقيت القاهرة
مما لا شك فيه أن الإنسان الذى هو صنعة الله سبحانه وتعالى، هو العجيبة الكبرى فى هذا الكون، وخلق الله كله عجب وإبهار، لكن تلك العجيبة التى تتميز عن غيرها من المخلوقات بالعقل والقلب والقوى الناطقة أودع الله فيه من الأسرار العجيبة ما جعله سيد الموجودات ورئيس الكائنات، وركب الله سبحانه وتعالى فيه قوى متعارضة من العقل والروح والشهوة والغضب، يغالب بعضها بعضا، ويصارع بعضها بعضا، فمنها القوى الشهوانية التى تنقاد إلى الإكثار من الطعام والشراب والجماع والملذات وسائر الشهوات الحسية، وهذه القوى كلما انغمس الإنسان فيها اثقال إلى الأرض وتبلدت قواه الأخرى الروحية والعقلية، وجمد عقله وقسا قلبه وابتعد عن الغاية العظمى التى أوجده الله سبحانه وتعالى من أجلها ألا وهى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) والإنسان العاقل يقتصر من هذه الأمور التى تشبه شهوته على ما يقيم حياته ويصلح شأنه ويجعله معتدل المزاج والحالة (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجاء تشريع الصيام لكى يحد من تلك الشهوة ويضيق مجاريها ويمكن عقل الإنسان من السيطرة عليها وتنظيمها وتوظيفها فيما خلقت له وعمل التوازن المناسب الذى يمكن الإنسان من ذلك.
والقوى الأخرى التى ركبت فى الإنسان هى القوى الغضبية، ويظهر أثرها فى الإنسان الذى تتحكم فيه العاطفة وينساق وراء الانفعال وينقاد خلف عادة المسارعة وفرط الشجاعة وقد لا يميز بين المواقف التى تحتاج إلى الحكمة والسكينة والتعقل، وبين المواقف التى تحتاج إلى الشجاعة والإقدام والمسارعة، ولا شك أن الإنسان الذى تجتمع عليه قوتا الشهوة والغضب معا قد يتخلى تماما عن إنسانيته ورسالته فى إعمار الكون وتحقيق خلافة الله تبارك وتعالى فى أرضه، ولذلك جاء رجل يسأل النبى صلى الله عليه وسلم الوصية فأوصاه بألا يغضب كررها ثلاثا، وبنظرة فاحصة إلى واقعنا الذى نحياه نرى أن الغضب قد يستبد ببعض الناس حتى يقتل الولد أباه وأمه والأخ يقتل أخاه على أمور مادية ومشاكل تافهة، لكنه الغضب الذى يحول الإنسان إلى وحش كاسر لا يرحم، ورمضان والصيام مدرسة ربانية لتهذيب الأخلاق وعدم الانسياق خلف الشهوة والغضب، فالنبى صلى الله عليه وسلم علمنا ألا نقابل السيئة بالسيئة والغضب بالغضب، فإذا بالإنسان الذى يتذكر صومه ويذكر نفسه بلوازمه يعلى من قدر ذاته وإنسانيته إن سابه أحد او قاتله فليقل (إنى امرؤ صائم).
رمضان شهر صناعة الإنسان وصياغته على معالم الخلق القويم والصراط المستقيم والتقوى والهداية وتهيأة القلب لأن يكون محلا لأنوار التنزلات الربانية والأسرار الإلهية إذا ما تخلى عن الانسياق خلف شهواته والانقياد لغضبه.
رمضان شهر إطلاق القوى الروحية للتأمل فى الكون والتدبر فى القرآن الكريم، الذى هو دستور الحياة والإنسان والكون، من تعمق فيه صائما فتح الله له من كنوزه، وأنار بصيرته بنوره، ورزقه الله الهدى والحكمة والهداية والتوفيق.
رمضان شهر الوفاء وشهر القيم وشهر الأخلاق والكرم والجود، رمضان يحيى فينا ما أماتته الدنيا وفتنتها من معانى الإنسانية الحقة من الإخاء والتعاون والتكافل والتواد والترابط والوحدة ـ تلك المعانى السامية التى نريد أن تعود إلى حياتنا من جديد فى رمضان وفى غير رمضان، فليس المقصود تحقيق هذه المعانى الإنسانية فى رمضان فقط ولكن فى سائر الأيام، ونحن على ثقة باختفاء كثير من مشاكلنا الحياتية والأخلاقية إذا امتدت أنوار رمضان فى نفوسنا وقلوبنا إلى ما بعد رمضان.
نرجو المولى العلى القدير أن يطهرنا من ذنوبنا وأمراض نفوسنا، وأن نخرج من هذا الشهر الكريم، وقد شملتنا الرحمة، وغشيتنا المغفرة، وكنا من عتقاء ربنا من النيران.