البحث عن المستقبل: التيه العربى والدول المستولدة قيصريا

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

لم تعد للأسماء والتعابير السياسية التى سادت طيلة القرن المنقضى بين معاهدة سايكس بيكو (1916) ووعد بلفور (1917) وأيامنا هذه الدلالات ذات الوهج التى كانت لها عبر الزمان الذى مضى وتركنا فى تيه الفوضى الدموية التى نعيش.

كنت عندما تقول «العرب» ترتسم فى ذهنك خريطة تمتد مع أحلامك باتساع الأرض فى ما بين «الخليج الثائر والمحيط الهادر».

أما اليوم فعليك أن تسلم، مكرها، بهذا التهاوى للهوية الجامعة أو الضيق بها إلى حد التنصل منها.

بل إن بعض رفاقك وأصدقائك القدامى لا يتورع عن اتهامك، بأنك تعيش حلما، أو أنك تهيم مع الشعراء فى بيداء تخيلاتهم، أو أنك تسقط تجارب شعوب أخرى وفى عصور سابقة على واقعك الراهن المختلف جذريا، وإلى حد التضاد، مع أحلامك التى تتحول ــ بقوة الاستحالة ــ إلى أخيلة وتهويمات وهرب من الواقع إلى الخرافة.

«أنت خارج عصرك..»، يقولون.

«أنت تعيش فى أساطير الماضى هربا من وقائع الحاضر التى ترفض أن تسلم بها لقسوتها عليك وخوفك من الانكسار..»

«أنت تهرب من مرارة الواقع إلى رهافة الشعر الذى قد يُطرب السامعين بأن يحملهم على أجنحته إلى رغباتهم المضمرة، حتى لو كانوا يتخوفون من أن تكون أوهاما».

«أنت ترفض واقعك، وتراه مهينا لإنسانيتك، محطما لطموحك فتهرب منه إلى الحلم، ثم تعاند فترفض أن تنتبه من غفلتك وتصر على إكمال رحلتك المتخيلة فى قلب السراب، مستعينا بالشعر أو بالقصص القديمة، أو بشىء من التراث الدينى، وبحكايات مستمدة من ثنايا ألف ليلة وليلة، أو من روايات جرجى زيدان، أو من كتابات المفكرين الطليعيين الذين أعادوا خلق العروبة بالاستناد إلى وقائع مبتورة ومنفصلة عن السياق التاريخى ودلالاته التى لا مجال للتحايل عليها فضلا عن انكارها».

***

دعك من التاريخ ورواته ورواياتهم المتناقضة، بحسب ميول كتابها أو دقتهم فى الترجمة والنقل والاقتباس المبتور. لنكن واقعيين: لم تكن معظم «الدول» العربية موجودة، وفى المشرق تحديدا، قبل الحرب العالمية الأولى التى أنهت وجود «السلطنة العثمانية» وأعاد المنتصرون فيها رسم خرائط الكيانات السياسية فى هذه المنطقة.

كانت «ولايات» أو «إقطاعيات» أو «مناطق نفوذ» لأمراء وشيوخ قبائل، وبالإجمال «جهات جغرافية» تمتد فوق خريطة واسعة، ولا دول أو مرتكزات من الجغرافيا والتاريخ والأصول «للشعب الواحد» أو «للشعوب المؤتلفة» ضمن إطار سياسى له امتداده الزمنى وأرضه المحددة.. فضلا عن أن بعض هذه الأقطار أو الجهات ما كان ليصير دولا لولا العامل الطائفى الذى بات الآن وسيلة أو سببا لتقسيم الموحد نظريا، كما أن أقطار الخليج عموما والتى كانت تُعرَف بساحل عمان ثم غلبت عليه تسمية «الساحل المتصالح»، مع مَن؟ ما كانت لتصير «دولا» لولا تدفق النفط والغاز فيها، وضعف «العصبية» الوطنية أو القومية أمام العشائر وشيوخها الذين وجدوا مَن يفيد من وجودهم لتحويل هذه «الجهات» إلى «دول» سيكون لها من ذهبها الأسود مبرر وجودها والخالق لعصبية الاستقلال فى دوله هربا من «الإخوة الفقراء»، بالاستناد إلى حماتها الجدد من أصحاب المصلحة والقدرة على استثمار مواردها التى جاءتها بلا تعب ولا جهد ولكنها بررت «انفصالها» بالتسليم بحماية مستثمرى ثرواتها الهائلة مقابل حمايتها من «الإخوة الفقراء».

***

للتذكير فقط: حين أقيمت جامعة الدول العربية، والتى رأى فيها البعض مشروعا استعماريا (بريطانيا على وجه التحديد)، كان عدد الأعضاء فيها سبع دول... أما الـ 15 دولة الأخرى فقد جاء انضمامها بعد استيلادها لأسباب لا تخص أهلها (أو قبائلها المتناثرة بين الرمل والموج، بامتداد الخليج العربى).. فضلا عن استيلاد دول أخرى لأسباب لا تخص أهلها كجيبوتى وصولا إلى جزر القمر الخ.

حتى المملكة العربية السعودية ما كانت لتظهر دولة بخريطتها الحالية لولا تأمين الحماية الدولية للأسرة السعودية بقيادة عبدالعزيز آل سعود الذى سيغدو ملكا، بل الدعم المباشر لها والذى مكنها من هزيمة خصومها جميعا وأبرزهم ابن الرشيد. وكان النفط بين أسباب هذه الحماية التى مكنتها، بالاستناد إلى غطاء شرعى من الحركة الوهابية التى مثلت ذروة التطرف المذهبى، من السيطرة على هذه «القارة» الغنية بخيراتها.

ولقد اكتسبت هذه الدولة التى أقيمت بالسيف، وبعد سلسلة من الحروب شرقا وجنوبا، شرعيتها الدولية من نفطها الذى غطى على حقيقة احتوائها أعظم مقدسات المسلمين: مكة المكرمة بالكعبة المشرفة فيها والمدينة المنورة.

غلب النفط، إذن، «المقدس»، وحملت المملكة الجديدة اسم الأسرة التى أخذتها بالسيف، وجاء الأمريكيون إلى جانب البريطانيين وبالتزاحم معهم إلى الأرض الغنية بالذهب الأسود الذى كان اكتشافه ــ بغزارته الاستثنائية وسهولة استخراجه ــ حدثا دوليا.

صار النفط ومعه الغاز سببا لاستيلاد الدول فى شبه الجزيرة التى ظلت خارج التاريخ بعد أن بنى الخلفاء دولهم واتخذوا لهم عواصم خارجها (الأمويون فى دمشق والعباسيون فى بغداد والفاطميون من بعدُ فى القاهرة).

ولم يكن لهذه الدول خارج التوكيد على الانتماء العربى مبرر وجود.. أما العراق فقد استولد وقد زرعت فيه بذرة الانقسام، حين قمعت ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطانى، فامتنع الشيعة عن المشاركة فى السلطة التى احتكرها أهل السنة، وبذلك تم خلق وضع سياسى غير متوازن فى أرض الرافدين سيجد فرصة للانقلاب عليه تحمل فى طياتها الإدانة حين هجمت وجاهات الشيعة على السلطة مع دخول جحافل الاحتلال الأمريكى وبدعم بل وتحريض مباشر منها «مستعيدة حقا مضيعا»، ومتسببة فى الوقت ذاته بخلق مشكلة أو مظلمة سنية ستتسبب فى شرخ وحدة العراق...
وممهدة لتعاظم المطلب الكردى بالفيدرالية، بحيث صار دعوة إلى «استقلال الإقليم» بعيدا عن دولة العراق المركزية، ومبررة ارتفاع بعض الأصوات بضرورة تقسيم أرض الرافدين إلى ثلاث دول: واحدة شيعية، والثانية سنية، والثالثة كردية.

***
فأما سوريا التى منعت وطنية شعبها تحقيق خطة الاحتلال الفرنسى، فى تقسيمها إلى أربع دول، على قاعدة طائفية ومذهبية، فقد أكد الشعب وحدته وتواضع فى أحلامه فتخلى عن الطموح إلى دولة عربية واحدة.. ثم عجز عن مقاومة البريطانيين فى سلخ شرقى الأردن عن الأرض السورية ليقيموا عليها «إمارة شرقى الأردن» كجائزة ترضية لنجل شريف مكة الأمير عبدالله بن الحسين (مطلق الرصاصة الأولى (والأخيرة) إيذانا بالثورة العربية الكبرى واستعادة العرب حق القرار فى مستقبلهم فوق أرضهم الواحدة (استنادا إلى ذكريات الخلافة).
على أن مقتضيات الحرب العالمية الثانية، بمنطق «الحلفاء» بقيادة بريطانيا فى مواجهة «المحور» بالقيادة الألمانية قد كلفت سوريا انتزاع لواء اسكندرون منها لضمه إلى تركيا، استرضاء لها ومنعا من انحيازها إلى الألمان.
أى أن عرب المشرق قد دفعوا من أرضهم ومن سيادتهم عليها، قبل الحديث عن حقهم فى إقامة دولهم مع ما يتناسب مع تاريخهم ووحدتهم فيها، ضريبة باهظة ستتجلى فى ما بعد فى الكارثة القومية تحت عنوان إقامة الكيان الإسرائيلى فوق أرض فلسطين بحماية التمزق الذى ضرب حلم وحدة الهوية واحتمالات تجسيدها السياسى، خصوصا وأن «دولة إسرائيل» قد استولدت ــ ومنذ اللحظة الأولى ــ معززة بأسباب قوة لا يملك العرب مجتمعين ما يضاهيها أو يوازيها، كما أثبتت حرب فلسطين الأولى فى العام 1948... وهذا التفوق فى القوة الإسرائيلية الوافدة من الغرب، والحاملة هويته، سيظل أحد عناصر التمزق العربى والإنهاك الدائم بعيدا عن أحلام الوحدة ومطالب التحرر والاستقلال الحقيقى.. وهكذا ستتزايد أعداد الدول العربية، وهى فى حقيقة الأمر مزق وكيانات مصطنعة لا أساس لها فى التاريخ.
***
العرب فى التيه الآن، يخوضون فى قلب مشرقهم وصولا إلى اليمن فى دمائهم، ويبحثون عن هويتهم الجامعة فى قلب الضياع، ثم تغريهم الكيانات المستولدة على قاعدة طائفية أو مذهبية أو عنصرية، بينما مصر مشغولة بهمومها الثقيلة، وليبيا تبحث عن دولتها المضيعة، وتونس تهتز دولتها ولما تسقط، فى حين تغيب الجزائر فى غيبوبة رئيسها، وينتبه العرش المغربى فيبادر إلى الانضمام إلى الحلف المذهبى الذى ابتدعته ثروة أهل النفط فى شبه الجزيرة العربية، جنبا إلى جنب مع الملك الهاشمى الأخير الذى يتسلح بنَسَبه فى حين تضمن استمراريته الدولة الطارئة والتى باتت القوة الوحيدة فى المنطقة: إسرائيل!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved