هل يستفيد المجتمع من مكافحة الفقر؟

محمد القرماني
محمد القرماني

آخر تحديث: الخميس 21 يونيو 2018 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

يتصور البعض أن المنادين بسياسات تنحاز للفقراء ومحدودى الدخل ينطلقون من مبادئ إنسانية فحسب، ويظنون أن الداعين لعدالة توزيع الثروة والدخل وأعباء الإصلاح الاقتصادى هم من الحالمين بمجتمع تذوب فيه الفروق الطبقية ويتساوى فيه المواطنون فى الدخول ومستويات المعيشة على نمط المجتمعات الشيوعية. فى الواقع فإن هذه الظنون يجانبها الصواب وتتجاهل حقائق هى فى واقع الأمر الباعث الأساسى والأهم من منظور اقتصادى واجتماعى للمطالبة بمكافحة الفقر. لا خلاف على أن الفروق الطبقية والاختلاف فى مستويات المعيشة هو قدر محتوم فرضه نمط اقتصاد السوق الذى يقوم على المنافسة فى العمل والإنتاج ومن ثم الدخل والثروة. ولا شك أن نظام السوق الحرة أثبت قدرته على تعظيم الكفاءة الاقتصادية والإنتاجية ونتج عنه تراكُم معدل النمو فى غالبية الدول التى انتهجته وهو ما انعكس على ارتفاع مستوى معيشة المواطنين بشكل إجمالى. غير أن مكمن الخطورة هو أن يصل حد التفاوت الطبقى إلى درجات تصبح معها بعض فئات المجتمع محكوما عليها بالفقر والحرمان دون أمل فى الخروج من الدائرة اللعينة للفقر.
مناقشة الفقر باعتباره ظاهرة اقتصادية واجتماعية لا تنفصل عن مناقشة أسبابه، وهو نقاش طويل لن تسمح المساحة المتاحة بالخوض فيه تفصيلا ولكن يكفى لأغراض هذا المقال أن نذكر أنه من منظور متزن بعيدا عن التطرف الأيديولوجى فإن هناك شبه إجماع داخل الأوساط السياسية والاقتصادية والدوائر الأكاديمية على أن الفقر ناتج مزيج من الأسباب الشخصية المتعلقة بفشل الشخص ذاته بسبب ضعف قدراته وإمكانياته أو دوافعه (كأن يكون الشخص كسولا مثلا أو أن يكون ذكاؤه محدودا)، وأسباب أخرى تتعلق بالقيود المفروضة على الفقير والمتمثلة فى البيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التى نشأ فيها الشخص والتى يصعب التغلب عليها وتؤدى إلى استمرار الفقر وتوريثه (كأن يولَد الشخص فى أسرة فقيرة وبالتالى لا يحصل على التعليم المناسب أو العلاج من أمراض تتسبب فى ضعف القدرات البدنية والذهنية وخلافه)، فضلا عن التحولات الاقتصادية الكبرى التى تؤدى إلى تهميش بعض الفئات مثل التحول من الاقتصاد الزراعى إلى التصنيع أو من الأخير إلى الاقتصاد الخدمى. وبطبيعة الحال يختلف البشر عن بعضهم البعض وبالتالى فالحالات الفردية لنماذج تغلبت على ظروفها الصعبة لا يمكن القياس عليها أو تعميمها.
***
وبالنظر إلى اقتصاد السوق الذى يهدف إلى تعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة (الكفاءة الاقتصادية) والذى تحاول الدولة المصرية تطبيقه منذ عقود، نجد أن الفرضية الأساسية لنجاحه قائمة على العدد اللامتناهى من المعاملات الاقتصادية ــ أى الإنتاج والاستهلاك ــ وهو ما يتحقق بمشاركة غالبية أفراد المجتمع فى المنظومة الاقتصادية سواء باعتبارهم منتجين للسلع والخدمات أو مستهلكين لها، وبالتالى يصبح توسيع قاعدة المشاركة الاقتصادية مطلبا رئيسيا لنجاح نظام السوق فى إتيان ثماره الإيجابية. وعليه فإن عدالة التوزيع فى إطار نظام السوق ليست مرادفا للمساواة فى التوزيع، فليس المطلوب أو المرغوب أن يحصل جميع أفراد المجتمع على النصيب ذاته من الثروة والدخل، ولكن المقصود هو المساواة فى الفرص والظروف التى تتيحها الدولة لمختلف أفراد المجتمع والتى تضمن للجميع المنافسة العادلة على أساس متوازن داخل إطار السوق. وانطلاقا من هذا تتدخل الدولة حتى فى أعتى النظم الرأسمالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية لدعم التعليم والصحة والإسكان والتدريب المهنى وبعض المرافق العامة، فضلا عن تقديم إعانات مالية للمتعطلين عن العمل والمرأة المعيلة وذوى الاحتياجات الخاصة وتقديم الوجبات المدرسية والسلع الغذائية لمحدودى الدخل وأبنائهم. ويظل الغرض الأساسى من هذا الدعم هو بناء الإنسان القادر على العمل والتعلم واكتساب المهارات ومن ثم الانخراط فى منظومة الإنتاج. أضف إلى ذلك أن الفقراء يدفعون ضريبة فقرهم أو ما يعرف بـ Bandwidth tax والمتمثلة فى الجهد الذهنى والبدنى الأكبر الذى يبذله الفقراء لتلبية احتياجاتهم الأساسية والذى يستنفذ طاقتهم الفكرية ومجهودهم البدنى فى البحث عن حلول لمشكلاتهم المستعصية وتدبير احتياجاتهم بما فى ذلك على سبيل المثال قضاء وقت أطول للانتقال للعمل والمدارس والجامعات وكذا الانتظار فى طوابير للحصول على الخدمات المختلفة أو البحث عن سلع مستخدمة ورخيصة الثمن وهو ما يقلل من الإنتاجية وفرص التفكير فى تنمية المعارف وتطوير الذات واكتساب مهارات جديدة للمنافسة فى سوق العمل.
***
وعلى الجانب الاجتماعى فإن مكافحة الفقر وتقليل المساواة والحد من التفاوت الرهيب فى الدخول والثروات له تأثير مهم على استقرار المجتمع وسلامته. فبرامج الحماية الاجتماعية وسياسات إعادة التوزيع لا تستهدف مكافحة الحرمان البدنى فحسب (عدم القدرة على إشباع الحاجات الأساسية كالأكل والشرب والكساء والمسكن)، بل تمتد أيضا لمقاومة الحرمان الاجتماعى social deprivation الذى يعانى منه الفقراء والمهمشون نتيجة التفاوت الكبير فى الدخل والثروة والمتمثل فى عدم قدرتهم على مجاراة أنماط الإنفاق والاستهلاك فى المجتمعات التى يعيشون فيها. حيث يتسبب الحرمان الاجتماعى فى شعور الفقير بالاغتراب والعزلة الاجتماعية وعدم الانتماء ويتربى لديه الإحساس بالقهر والظلم ويُوَلِد لديه الشعور بالسخط على الدولة والنظام السياسى ويصبح فريسة للاستغلال سواء من جماعات متطرفة أو إجرامية ليس فحسب لحاجته المادية ولكن بسبب كراهيته للمجتمع وفقدان الثقة فى مؤسساته. لهذه الأسباب تعتمد العديد من الدول المتقدمة على مؤشرات الحرمان الاجتماعى لقياس الفقر وتركز سياسات مكافحة الفقر فيها على الدمج الاجتماعى social inclusion لضمان تمتع الفقراء ومحدودى الدخل بأنماط استهلاك ومستويات معيشة لا تبتعد كثيرا عن النمط العام السائد فى المجتمع وهو ما يؤدى إلى مزيد من التماسك والسلام الاجتماعى.
خلاصة القول أن الانحياز للفقراء ومحدودى الدخل دوافعه ليست عاطفية أو إنسانية فحسب، بل له اعتبارات اقتصادية واجتماعية مؤثرة على مختلف طبقات المجتمع، فإذا كان الرهان الأساسى لأصحاب التوجهات الرأسمالية على أن زيادة حجم الكعكة الاقتصادية سيؤدى إلى رفاهية المجتمع بأسره فإنه لا سبيل لذلك إلا بدمج مختلف شرائح المجتمع فى منظومة السوق، وحتى من لا يشغلهم معاناة الآخرين فإن مصالحهم الشخصية الضيقة لن تتحقق فى مجتمع تتزايد فيه معدلات الفقر والتهميش وعدم المساواة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved