انكشاف الأمن العربى فى مواجهة سايكس ــ بيكو الجديدة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 21 يونيو 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

جاء على العرب زمن كانوا يلعنون فيه اتفاق سايكس ــ بيكو فى سنة ١٩١٦ والذى اتفقت فيه فرنسا وبريطانيا وبمشاركة روسيا القيصرية على تقسيم أقاليم الإمبراطورية العثمانية فى الشرق الأوسط بين الدول الثلاث، وهو ما تحقق بالفعل بعد الحرب العالمية الأولى، وأضيف إليه وعد بلفور للحركة الصهيونية بأن تكون فلسطين «وطنا قوميا» لليهود، واعتبرت الحركة القومية العربية فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى أن هذا الاتفاق كان خيانة للوعود التى قطعتها بريطانيا للشريف حسين أمير مكة والذى كانت تسانده طليعة من المثقفين والعسكريين العرب، بأن تكون ثمرة ثورتهم على الإمبراطورية العثمانية تأييد بريطانيا لقيام مملكة عربية واحدة فى شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام على رأسها الشريف حسين نفسه وفق ما جاء فى المراسلات الشهيرة بين حسين ومكماهون المعتمد البريطانى فى القاهرة. اعتبرت الحركة القومية العربية أن خيانة بريطانيا لهذه الوعود كانت السبب فى تجزئة قسم كبير من الوطن العربى وعقبة أمام تحقيق حلم الوحدة العربية. ولم يقتصر انتقاد هذا الاتفاق على القوميين العرب، ولكن انضم إليهم عدد من خبراء الشرق الأوسط الغربيين، وخصوصا بعد الغزو الأمريكى للعراق فى سنة ٢٠٠٣، ووضع دستور له بمنطق المحاصصة، وكذلك بعد ثورات الكرامة العربية فى ٢٠١١ ليطرح هؤلاء الخبراء مقولة إعادة النظر فى سايكس ــ بيكو للمزيد من تقسيم الوطن العربى على أساس الولاءات الأولية، فتكون هناك ثلاث دول فى العراق، ودولتان ربما فى اليمن، واتباع نفس المنطق فى سوريا ولبنان ودول عربية أخرى. فى مواجهة هذا الطرح كنت أقول لهؤلاء الخبراء ولأصدقائى العرب أنه بعد فشل مشروعات الوحدة العربية العديدة وتراجع المشروع القومى العربى فى أعقاب هزيمة ١٩٦٧، فقد أصبحت المهمة العاجلة للقوميين العرب فى تلك الظروف هى الحفاظ على تقسيم الوطن العربى كما اتفق عليه سايكس ــ بيكو. ولكن لم يقف تدهور أوضاع الوطن العربى عند هذا الحد، فقد أصبحنا نواجه فى الوقت الحاضر تقسيما جديدا للوطن العربى يذهب إلى حد أبعد بكثير مما طرحه الدبلوماسيان البريطانى والفرنسى، وبينما كانت سايكس ــ بيكو الأولى خيانة لوعود بمساندة مشروع دولة عربية واحدة، فإن سايكس ــ بيكو الثانية تجرى فى وقت لا يكاد العرب يشعرون فيه بخطر واحد يهددهم، بل وبمشاركة أطراف عربية فى تحقيقها. فما هى معالم سايكس ــ بيكو الجديدة، وما هى الأخطار الإضافية التى تشكلها على أمن الدول العربية؟ وهل من سبيل لمواجهتها؟
معالم سايكس بيكو الجديدة
أول معالم سايكس ــ بيكو الجديدة هى الامتداد الإقليمى برا وبحرا وجوا لدول شرق أوسطية ولدول كبرى خارج المنطقة. طبعا هناك الامتداد الإسرائيلى الذى يشمل أراضى واسعة من الضفة الغربية يعتزم رئيس الوزراء الإسرائيلى ضمها الشهر المقبل تقدر بـ٣٠٪ من مساحتها، فضلا عن كل القدس التى أعلنتها إسرائيل عاصمتها الموحدة، بالإضافة إلى هضبة الجولان التى تنوى تعميق الاستيطان فيها ومزارع شبعا، كما تفرض إسرائيل حصارا بحريا على ساحل غزة، وتنطلق غاراتها الجوية فى سماء سوريا ولبنان كلما شاء قادتها السياسيون أو العسكريون. وهناك تركيا التى تفرض سيطرتها على مساحات مهمة شمال سوريا وتتوسع شمال العراق، وتكتسب تواجدا دائما فى ليبيا، كما تعتبر شرق المتوسط بحيرة تركية يبحر فيها أسطولها وتتولى شركاتها التنقيب عن البترول والغاز الطبيعى فيها متجاهلة حدود المنطقة الاقتصادية لدول شرق المتوسط، وهناك إيران التى تحتل ثلاث جزر لدولة الإمارات، وتفضل السيطرة غير المباشرة من خلال الأعوان والمؤسسات الإيرانية الأمنية والاقتصادية فى لبنان واليمن والعراق وسوريا، ومن خارج الشرق الأوسط تملك روسيا قواعد ثابتة فى سوريا تخضع تماما لسيادتها، وتوجد القوات الأمريكية بالقرب من حقول النفط شمال سوريا.
وثانى هذه المعالم هو إعادة تشكيل الخريطة السياسية للوطن العربى والتى تفتح الباب أيضا للسيطرة على أراضيه أو لتهديد الجيران مثلما تفعل تركيا فى ليبيا فى الوقت الحاضر وكذلك فى قطر، ومثلما تفعل إيران من خلال حلفائها الذين سبق ذكرهم ومثلما ما يمكن أن تحققه إسرائيل من خلال علاقاتها المتنامية مع دول الخليج العربى.
وثالث هذه المعالم هى أن الدول الفاعلة فى رسم سايكس ــ بيكو الجديدة لم تكن طرفا فى سايكس ــ بيكو الأولى، بل ربما تعتبر توسعها فى الوطن العربى انتقاما لما جرى لها بسبب التقسيم الأول، وفى أعقاب الحرب العالمية الأولى، هذا هو حال تركيا التى ثار العرب عليها خلال تلك الحرب، ويؤكد رئيسها أن توسعها فى غرب البحر المتوسط هو استعادة لممتلكات الدولة العثمانية التى يعتبر بعض المؤرخين الأتراك أن الثورة العربية الأولى كانت خيانة لها، والعجيب أن ثانى هذه الأطراف هو روسيا التى فضحت خارجيتها البلشفية ما جرى بين الدبلوماسيين البريطانى والفرنسى وبالمشاركة القيصرية فى سنة ١٩١٦، وربما تثأر روسيا لحرمانها من منطقة استانبول وبعض الأقاليم الأرمينية ومساحات واسعة يقطنها الأكراد فى شمال شرق تركيا فى الوقت الحاضر، وهو ما كان هذان الدبلوماسيان يعدانها بها، وذلك بالوجود المباشر على ساحل البحار الدافئة فى اللاذقية فى سوريا.
وثالث الأطراف هو الولايات المتحدة الأمريكية التى لم تكن قد تحولت بعد إلى قطب رئيسى فى النظام الدولى له مصالح استراتيجية فى كل أنحاء العالم، وتقف إسرائيل موقفا وسطا بين الدول التى رسمت خريطة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى والدول التى لم تشترك فى تلك المباحثات السرية، فهى وإن لم تكن الحركة الصهيونية حاضرة مباشرة فى مباحثات سايكس ــ بيكو، إلا أن قيام إسرائيل هو نتيجة غير مباشرة لتقسيم المشرق العربى بين فرنسا وبريطانيا، فضلا على الصلات القوية بين حاييم وايزمان والذى أصبح فيما بعد رئيس المنظمة الصهيونية العالمية (١٩٢١ــ١٩٣١) وأول رئيس لإسرائيل وآرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطانى صاحب الوعد المشئوم، بل إن الدولتين اللتين وضعتا معالم التقسيم الأول أصبح تأثيرهما هامشيا فى تشكيل مصير الشرق الأوسط فى الوقت الحاضر. تظهر بريطانيا كتابع للولايات المتحدة وذلك إذا ما سمح لها برلمانها بالوجود العسكرى فى الإقليم، وهى مشغولة فى الوقت الحاضر بأوضاعها الداخلية وبالخروج من الاتحاد الأوروبى، ونفضت عن نفسها فيما يبدو أحلام الإمبراطورية، وتجاهد فرنسا بالوسائل الدبلوماسية لمقاومة امتداد النفوذين التركى والإيرانى شرق المتوسط وغربه دونما فعالية كبرى.
ورابع معالم هذا التقسيم الجديد للوطن العربى، وعلى عكس التقسيم الأول، فإنه يجرى بمشاركة عربية فعالة. التقسيم الأول كان خيانة لوعود قطعها على أنفسهم ممثلو الإمبراطورية البريطانية فى ذلك الوقت من دبلوماسيين وجواسيس، نكثوا فيها عن التعهد بتأييد قيام مملكة عربية واحدة فى المشرق العربى، وكان الطرف المقابل خليطا من الزعامة التقليدية للشريف حسين وأبنائه ومن المثقفين والعسكريين العرب ضباط الجيش العثمانى فى ذلك الوقت، ومنهم عزيز المصرى وآخرون أتيح لهم فيما بعد تولى مناصب وزارية عليا فى بعض الدول العربية، وكان سلوك الحكومة الاستعمارية البريطانية صادما لهم، حتى وإن تمكن الشريف حسين أن يحكم وأبناؤه ثلاث دول عربية هى الحجاز والعراق والأردن تعويضا عن خيانة العهد قبل أن يطيح عبدالعزيز ابن سعود بدولة الحجاز منهيا وجود الأسرة الهامشية هناك، ولكن استمر حلم الدولة العربية الواحدة حيا فى نفوس الكثيرين فى كل تلك الدول. أما التقسيم الجديد فهو يحظى بمؤازرة أو تجاهل الأطراف العربية ذات الوزن. لم نسمع صوتا عربيا يرفض بحسم، حتى ولو كان لفظيا، سعى إسرائيل لضم مساحات واسعة فى غور الأردن وذلك باستثناء الملك عبدالله ملك الأردن الذى رفض لقاء نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل بحسب ما كشفت الصحف الإسرائيلية، طبعا دون أن نغفل ذكر بيان للجامعة العربية فى هذا الشأن لا يقيم أحد له وزنا. وتشارك أطراف عربية مثل حكومة قطر، وحركة الإخوان المسلمين فى مصر وتونس والتنظيمات المسلحة التى ترفع راية الإسلام جهود القوات التركية فى مد النفوذ فى سوريا والعراق وليبيا، وتتحالف مع إيران الحكومة السورية وتنظيمات مسلحة وقوى سياسية فى لبنان واليمن والعراق.
هل يتحقق الأمن القطرى فى ظل التقسيم الجديد
طبعا يمكن تقييم هذه الأوضاع من منظور قومى عربى. هذا ممكن وواضح، ولكن هذا المنظور فقد مصداقيته مع كثرة الهزائم العربية منذ ١٩٦٧، وتخلى جل الحكومات العربية عن أى التزام جاد بالتضامن العربى، ولكن يمكن النظر إلى هذه الأوضاع بمنظور المصلحة القطرية الصرفة والإجابة واضحة. ليس هناك قطر عربى واحد لا يواجه تهديدا حقيقيا وحالا لأمنه القطرى. وأبدأ بالدول العربية الكبرى التى كان موقفها المشترك فى سنة ١٩٧٣ هو آخر لحظة مضيئة للتضامن العربى وهى مصر وسوريا والسعودية. مصر باعتراف الرئيس عبدالفتاح السيسى تواجه تهديدات لأمنها من الشرق والغرب والجنوب، بل ومع الوجود البحرى التركى فى شرق المتوسط أيضا من الشمال، فضلا عن استمرار الهجمات الإرهابية بين حين وآخر فى سيناء. وتتساقط الصواريخ التى يطلقها أنصار الله الحوثيون على المملكة السعودية من اليمن التى تخوض فيها المملكة بمساعدة دولة الإمارات حربا لم تنجح فى حسمها منذ خمس سنوات، وتوجد على أراضى سوريا قوات مسلحة لخمس دول على الأقل وعشرات من التنظيمات المسلحة المتحاربة. ولن يكفى هذا المقال لذكر تهديدات الأمن القطرى الداخلية والخارجية لكل الدول العربية.
والجدير بالملاحظة أن هذه التهديدات حالة وقائمة على الرغم من التحالفات التى دخلت فيها الدول العربية مع أطراف إقليمية ودولية. لم ينجح التحالف الضمنى مع إسرائيل والعلنى مع الولايات المتحدة فى تأمين دول الخليج التى تقودها السعودية مما تعتبره خطرا إيرانيا مباشرا أو متقنعا وراء تنظيم أنصار الله فى اليمن، وإذا كانت دول حلف الأطلنطى تشك فى جدية التزام الولايات المتحدة بحماية أمنها، فهل يكون التزام الولايات المتحدة بأمن دول الخليج أقوى من التزامها تجاه دول غرب أوروبا التى تربطها بها وشائج ثقافية وسياسية واقتصادية وتاريخية، وتحتاجها قطعا فى تنافسها مع الصين وروسيا؟ وهل يكون التحالف مع إيران أو تركيا أو روسيا أكثر صمودا فى مواجهة تغيرات داخلية فى هذه الدول أو فى الدول العربية المتحالفة معها.
المصلحة القطرية المحضة على المدى الطويل تستدعى من النخب المثقفة العربية أولا قبل حكوماتها أن تعيد النظر فى أخطار سايكس ــ بيكو الجديدة على أمنها، ولعل حكوماتها تسمع لها قبل أن يفوت الأوان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved