المواطن سَوِىٌّ

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 21 يوليه 2017 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

عجيبة هى الحال التى تختلط فيها المفردات والمعانى فيصبح للمفردة الواحدة معنيان متناقضان. يحمل معجم «لسان العرب» بعض هذه المفردات التى يمكن استعمالها للدلالة على الشىء وعكسه فى آن واحد، ومنها على سبيل المثال الفعل «بان». درسنا فيما درسنا من الشعر القديم أن «بان» تأتى بمعنى اختفى ونأى، لكننا نستخدم الكلمة فى أحاديثنا اليومية لنشير بها إلى ما ظهر ولاح، ويؤكد لسان العرب نفسه هذا الاستخدام ويؤيده، فكلمة «بان» قد تأتى بمعنى اتضح، وقد يختلف المدلول حين نقول إن فلانا باين صاحبه فيكون المعنى أنه «فارقه»، وفى هذا يقول المعجم: «البَيْنُ فى كلام العرب جاء على وجْهَين: يكون البَينُ الفُرْقةَ، ويكون الوَصْلَ، بانَ يَبِينُ بَيْنا وبَيْنُونة، وهو من الأَضداد». 
اخترعنا كلمات كثيرة فى السنوات الأخيرة وحملناها ما تحمل من دلالات وما لم يرد فى قاموس أو معجم من إيحاءات، أو إذا شئنا الدقة والأمانة العلمية؛ لم نخترع الكلمات إنما اخترعنا مُصطلحات وصككنا تعبيرات لها من المعانى ما يخفى على الغرباء عنا، وعمن لا يتابع مساراتنا اللغوية المبهرة التى تستحق عديدَ الدراسات.
أطلقنا ذات يوم من الأيام ــ ولا نزال نفعل ــ تعبير «المواطنين الشرفاء»، ورحنا نخلعه على هؤلاء الذين لا علاقة بين سلوكياتهم ومفهوم «الشرف» من قريب أو بعيد، كما استخدمنا ضمن السياق ذاته مفهوم «الوطنية» فأسكنّاه فى غير محلّه وهللنا له، بل ونعتنا به بعض مَن فرطوا فى تراب الوطن، ووصمنا على الجانب المقابل مَن رفض التفريط بالخيانة، وكأن أدمغتنا خضعت لعملية غسيل انقلبت بعدها الأمور والمفاهيم رأسا على عقب.
*** 
قرأت منذ أيام تعبيرا جديدا فيه مِن الطرافة ما يغرى مَن له مثلى اهتمام بتعقب الكلام واقتفاء انحرافاته وترقب النتائج والتبعات، بأن يتروى ويستزيد. صرح شخص فى موقع مسئولية عامة، له صلة وطيدة بالناس، بأن «المواطن السوىّ» لن يتأثر بالقوانين التى تنتهك خصوصية الرسائل المنقولة عبر المواقع الإلكترونية. كان العنوان مثيرا بما دفعنى لقراءة الخبر كاملا. 
ملخص الخبر أن هناك فى الأفق القريب، مشروع قانون يبيح فك الشفرة الخاصة بالمخاطبات الإلكترونية، بما يتيح مراقبتها والتنصّت عليها. لم أهتم كثيرا لمسألة الرقابة والشواهد المتزايدة التى تؤكد حضور الأخ الأكبر؛ الأخ الذى يراقب الأشياء كلها ويعرف المعلومات كلها ويملك الحقائق كلها، بل ويعيد كتابة ما لا يتماشى مع حقائقه الخاصة، فكبير العالم الآن يقدم للناس ما يسميه بالحقائق البديلة تاركا إياهم فى حال الذهول. لم أهتم كثيرا لأمر الاعتداء على الحريات واختراق الحدود ومحاولة التسلل إلى العقول والنوايا والنفوس، فذاك أمر لا تفتأ الأنظمة المستبدة تسعى إلى تحقيقه ما استطاعت، وإن صاحبها فى العادة الفشل. 
انصب اهتمامى على كيفية استخدام اللغة فى تمرير الفكرة. قال المسئول إن القانون لن يمسّ الأمور الشخصية للمواطن السوىّ لكنه سيفعل فى مواجهة أصحاب التوجه الإجرامى والإرهابى. المعادلة اللغوية التى يجرى تقديمها هنا تبدو معادلة بارعة، فكل مواطن سوىّ لا يجب عليه مستقبلا أن يتضرر من القانون، وكل من يفكر فى الاعتراض سوف يوصم بأنه غير سوىّ، وكل من يتضرر هو بالتبعية مجرم أو إرهابى. هؤلاء الذين لا حيلة لهم وبعض من لا منطق يحركهم وينظم عقولهم سوف يجدون فى تأييد القانون فرصة طيبة كى يثبتوا أنهم أسوياء؛ أنهم مستحقون للصفة الحميدة، متمتعون بمزاياها.
وضعت الصحيفة التى نشرت التصريح مفردتَىّ «المواطن السوىّ» بين علامتى تنصيص، وقد يعنى هذا أن قاموسنا السياسى يستقبل تعبيرا سوف يعاد إنتاجه واستخدامه وتداوله مئات وآلاف المرات فى الفترة القادمة. وصف شخص ما بأنه سوى يشير فى ثقافتنا إلى أنه عاقل راشد متزن، فإذا قلنا عن شخص ما إنه «غير سوىّ» حضرت إلى الأذهان صورة نمطية فيها من العلة العقلية ما ينفر السامعين ويستدعى الانزعاج وربما يستثير شيئا من الخوف أيضا، وأغلب الظن أن كلام هذا الشخص «غير السوىّ» لا يؤخذ على محمل الجدّ ولا يحظى بالاحترام ككلام الآخرين. التعبير الجديد قد يمثل تمهيدا لانتهاكات قادمة لا يُراد الوقوف ضدها، وفى لغتنا الثرية الرائعة مُتَّسعٌ للمتلاعبين.
***
المواطن الشريف والمواطن الصالح والمواطن السوى وغيرها، ألعاب لغوية ندور فى فلكها منذ فترة غير قصيرة، فى حين أنها محض مخادعة، أوجه زائفة، أقنعة تلصق بنا فتحجب الصادق الوحيد: المواطن مصرى.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved