السؤال المهم حول ثورة يوليو

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 21 يوليه 2019 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

يمر هذا الأسبوع سبعة وستون عاما على ما حدث لمصر بعد تحرك الضباط الأحرار ليلة 23 يوليو ١٩٥٢، وهو الحدث الذى يعتبره البعض، وكاتب هذه السطور منهم، بداية ثورة اجتماعية وسياسية وثقافية فى مصر، ويعتبره آخرون مجرد انقلاب عسكرى جرّ على مصر كوارث ما زلنا نعانى منها حتى الآن، ولا أظن أن الجدل حول هذا الموضوع سينتهى، فهذا شأن الأحداث الكبرى فى تاريخ الأمم. طبعا لا أطمح إلى أن يكون لى القول الفصل فى قضية تقييم ثورة يوليو، ولكن أرى أن الطريق لفهم حدث ٢٣ يوليو أولا هو وضعه فى سياقه التاريخى العالمى والوطنى، كمقدمة للتساؤل الذى ينبغى أن ننشغل به جميعا، وهو ثانيا، إذا كانت ثورة يوليو، حتى باعتراف أنصارها قد رفضت ما يسمى بالديمقراطية الليبرالية، ولم تقم نظاما ديمقراطيا بديلا، فلماذا عجز المجتمع المصرى فى يوليو ١٩٥٢ وفى الوقت الحاضر عن الانتقال إلى طريق الديمقراطية.
السياق التاريخى العالمى والوطنى لثورة يوليو
أن ما جرى فى مصر حتى سنة ١٩٧٠ لم يكن أمرا فريدا فى تاريخ العالم. كانت تلك مرحلة التحرر الوطنى فى ظل الحرب الباردة، وتطلع قادة كثيرون فى دول حديثة الاستقلال للفكاك من أسر السيطرة الاستعمارية، وتطلعوا إلى نموذج فى التنمية يختلف عن النموذج الرأسمالى الذى عرفته بلادهم قبل استقلالها. كان ذلك ما حاوله نكروما وسيكوتورى وموديبا كيتا فى غانا وغينيا ومالى بالترتيب، وما حاوله سوكارنو فى إندونيسيا، وما فعله بعد ذلك كاسترو فى كوبا، بل وحتى ما حاوله حزب المؤتمر فى الهند بالأخذ بالتخطيط وإقامة قطاع عام مع تمسكه بالديمقراطية الليبرالية. لم يكن تطلع هؤلاء إلى نموذج مغاير للتنمية وليد كراهية للرأسمالية بسبب أصولهم الاجتماعية المتواضعة، وهو ما ينسبه البعض لجمال عبدالناصر، ولكن لأن الاتحاد السوفيتى بدا فى ذلك الوقت نموذجا ناجحا تصدى للعدوان النازى وقهره أثناء الحرب العالمية الثانية، وأقام فى ثلاثة عقود دولة صناعية أصبحت واحدة من قطبين يتحكمان فى النظام الدولى، بل وبمناسبة ما يجرى الاحتفال به هذا الأسبوع من هبوط أمريكيين على سطح القمر، هو الدولة التى كان لها السبق فى غزو الفضاء بالأقمار الصناعية وبالحيوانات (الكلبة لايكا)، وبالبشر رجالا ونساء. فى ذلك الوقت كانت دول أوروبا الغربية تجاهد لتعمير اقتصاداتها التى دمرتها الحرب العالمية الثانية بالاعتماد على المعونات الأمريكية، ولم تعرف اقتصاداتها العودة إلى النمو المضطرد إلا مع بداية ستينيات القرن الماضى. كما أن مرحلة النمو الاقتصادى فى ظل السيطرة الاستعمارية، حتى وإن لم تكن فاشلة، إلا أنها عجزت عن حل مشاكل البطالة والفقر والفساد التى كانت تواجهها هذه البلاد. ولذلك بدا التحول إلى التخطيط والاعتماد على قطاع الدولة فى التنمية استرشادا بالتجربتين السوفيتية والصينية أمرا مفروغا منه فى ذلك الوقت.
وعلى الصعيد الداخلى كانت مصر أبعد ما تكون عن الاستقرار الاجتماعى أو السياسى. أحداث حريق القاهرة وثورات الفلاحين فى الريف المصرى كانت من أبرز العلامات على السخط الذى يعتمل فى نفوس سكان المدن والريف الفقراء. وسواء كانت هناك أيدٍ خفية وراء حريق القاهرة فى يناير ١٩٥٢ أو لم تكن، فقد كانت استجابة الملك فاروق له هى بإقالة حكومة الوفد المنتخبة فى ٢٧ يناير، وتوالت على الحكم بعدها أربع وزارات خلال الشهور الستة التالية هى وزارات على ماهر وأحمد نجيب الهلالى وحسين سرى عامر ومرة أخرى نجيب الهلالى، تراوح عمرها ما بين أربعة شهور فى وزارة نجيب الهلالى الأولى إلى يومين فى حكومته الثانية التى سبقت قيام الثورة مباشرة. طبعا يحلو للبعض أن يرسم صورة وردية لنظام الحكم فى مصر قبل يوليو، وكاتب هذه السطور من أشد المعجبين ببعض الممارسات الليبرالية خلاله وبإنجازاته فى مجال الثقافة والعمارة بل والاقتصاد، ولكن كتب التاريخ لا تطمس ضيق العرش بالإرادة الشعبية أو عجز القوى التى ترفع شعار الديمقراطية عن فرض احترامه لتلك الإرادة كما تسفر عنها نتائج انتخابات حرة ونزيهة.
هل كان يمكن لمصر أن تعرف انتقالا إلى أوضاع ديمقراطية مستقرة فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢؟ الإجابة واضحة أن ذلك لم يكن ممكنا. فقد استسلم حزب الوفد لإقالة حكومته المنتخبة، وسعد بذلك الإخوان المسلمون خصوم الوفد، الذين تحسنت علاقاتهم بالقصر بعد عودتهم إلى العمل السياسى العلنى فى ١١ سبتمبر ١٩٥١ وتولى حسن الهضيبى منصب المرشد العام خلفا لحسن البنا، وكان يميل إلى مهادنة الملك وديوانه بعد أن كانت حكومة محمود فهمى النقراشى قد حظرت تنظيمهم فى ٨ ديسمبر١٩٤٨، وهو القرار الذى دفع النقراشى حياته ثمنا له إذ قام أحد نشطاء جهازهم الخاص باغتياله فى ٢٢ ديسمبر ١٩٤٨. فى الحقيقة أن الوفد رحب بالانقلاب على الملك فى يوليو ١٩٥٢، وكان الإخوان المسلمون على علم مسبق بهذا التحرك.
فى ظل هذه الأوضاع من الذى كان مرشحا لقيادة مصر على طريق الديمقراطية قبل تحرك الضباط الأحرار فى ذلك التوقيت؟ بعيدا عن التمنيات، وعن الحكم بالنوايا لم تكن هناك فى هذه الظروف أى قوة سياسية أو اجتماعية ملتزمة بغاية التحول إلى الديمقراطية وقادرة على الوصول إلى الحكم لترجمة هذا الالتزام إلى واقع ملموس.
البعض ممن يوافقون على هذا التحليل يرون أنه ربما كان ذلك ممكنا فى فبراير ١٩٥٤ عندما شبّ الخلاف بين محمد نجيب وخالد محيى الدين من ناحية وغالبية أعضاء مجلس قيادة الثورة من ناحية أخرى، انتصر الأولان للعودة إلى نظام ديمقراطى، وأصرت غالبية أعضاء مجلس قيادة الثورة وعلى رأسهم جمال عبدالناصر على استمرار الثورة، وهو ما كان يعنى بالنسبة لهم استمرار الحكم العسكرى. كان محمد نجيب رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت يتمتع بتأييد القوى السياسية بما فى ذلك حزب الوفد والإخوان المسلمين ونقابتى المحامين والصحفيين وبعض النقابات العمالية. انتهى الخلاف بين الفريقين إلى انتصار الفريق الثانى. ولكن هل كان يمكن أن يسفر انتصار فريق نجيب على محيى الدين عن تحول مصر إلى الطريق الديمقراطى؟. طبعا محاولة الإجابة عن هذا السؤال هى سباحة فى عالم الخيال، ولكن فلنلاحظ أن سجل محمد نجيب فى مجلس قيادة الثورة يلقى شكوكا كثيرة على تمسكه بالديمقراطية، كان ضمن الفريق الذى أيد استمرار الحكم العسكرى فى الاجتماع الشهير الذى عقده مجلس قيادة الثورة فى ٢٧ يوليو ١٩٥٢، والعجيب فى الأمر أن الأقلية التى فضلت الانتقال إلى حكم ديمقراطى كانت جمال عبدالناصر مع العضوين اليساريين فى المجلس وهما خالد محى الدين ويوسف صديق، وتلك هى رواية الرئيس الأسبق أنور السادات فى كتابه هذا عمك جمال، كما وافق محمد نجيب على قرار حل الأحزاب السياسية فى ١٦ يناير ١٩٥٣. طبعا المواقف يمكن أن تتغير. كما تغير موقف عبدالناصر نفسه وموقف نجيب فى فبرايرــ مارس ١٩٥٤. كيف كان نجيب سيحكم لو كان قد فاز فى مارس ١٩٥٤، وأغلبية الضباط الأحرار ضد حكم مدنى؟ وكيف كان سيتعامل مع كل من الوفد والإخوان المسلمين، وكانا فى ذلك الوقت على طرفى نقيض بالنسبة لقضية الديمقراطية؟ على أى الأحوال حسمت علاقات القوى داخل القوات المسلحة هذه المسألة بانتصار الفريق الذى لم يكن يرى فى الديمقراطية الحكم الأمثل لمصر فى تلك الظروف.
هل توجد قوى قادرة على قيادة التحول الديمقراطى فى مصر فى الوقت الحاضر
أصارح القراء بأنى أتمنى أن يكون تحليلى للإجابة عن هذا السؤال خاطئا، ودعونا نتبع نفس المنهج الذى اتبعناه فى محاولة فهم حدث يوليو ١٩٥٢، أى دراسة السياق الوطنى والعالمى. فلنناقش أولا مواقف القوى السياسية ثم القوى الاجتماعية وبعد ذلك الرأى العام ثم نتعرف على الاتجاهات السائدة فى الإطارين العالمى والإقليمى.
أولى القوى السياسية فى مصر هى بكل تأكيد القوات المسلحة، ليس لدينا طريقة نعرف منها مواقف أفرادها من هذه المسألة. ولكننا نفترض أنها تقف متماسكة وراء الرئيس السيسى الذى خرج من بين صفوفها. رأى الرئيس السيسى واضح تماما، وهو عبر عنه فى أكثر من مناسبة. الديمقراطية ليست مناسبة لمصر فى الوقت الحاضر. ولنا بحسب رأيه تفسيرنا الخاص لحقوق الإنسان الذى يختلف عما جاء فى الوثائق الدولية، حتى ولو كانت الحكومة المصرية صدقت عليها، وليس هناك ما يوحى بأن الرئيس قد غيّر رأيه من هذه المسألة.
الأحزاب السياسية القائمة أيا كان رأينا فيها غالبيتها الساحقة تقف وراء الرئيس، وقد أيدت بلا تحفظ التعديلات الدستورية الأخيرة التى أعطت الرئيس الحق فى الترشح مدتين أخريين، ومدت فترة الرئاسة، ووضعت فى يدى الرئيس سلطة تعيين قيادات المؤسسات القضائية، وسلمت للقوات المسلحة بحماية مدنية الدولة. طبعا هناك أحزاب صغيرة وشخصيات عامة تضمها الحركة المدنية الديمقراطية تدعو إلى الديمقراطية، ولكن هذه الأحزاب لا تملك أن تنشط خارج مقارها وليست لها وسائل للتواصل مع الرأى العام إلا من خلال أدوات التواصل الاجتماعى.
أما القوى الاجتماعية التى يمكن أن يكون لها دور فى التحول الديمقراطى، مثل الرأسمالية المصرية والطبقة العاملة، فالأولى قسم منها يستفيد من المشروعات القومية بانخراطها فيها، وهى كلها تميل إلى التكيف مع الحكومة القائمة حتى ولو كانت لها بعض شكاواها، وشكاواها قد تتعلق بإفساح المجال أمامها فى مواجهة مؤسسات الدولة، أو تخفيف بعض القيود على نشاطها، ولم يعرف لها دور بارز فى المطالبة بالديمقراطية، حتى ولو كان أفرادها يميلون لها باعتبار أنها تعنى حكم القانون، والسماح لها بالمشاركة فى صنع القرار الاقتصادى. أما الطبقة العاملة فهى تفتقد فى الوقت الحاضر التنظيم المستقل. وكثيرون من أفرادها يتطلعون إلى الخروج منها بإقامة مشروعات فردية.
ولكن ماذا عن الطبقة الوسطى التى قادت الحركة السياسية فى مصر طوال تاريخها الحديث؟ وماذا عن شباب مصر؟ لا يمكن التعميم لا بالنسبة لأولئك ولا لهؤلاء إذ تتعدد الاتجاهات داخل كل منهما، ولكن بحوث الرأى العام فى مصر تشير إلى أن غالبية المصريين عموما يفضلون الحكم الديمقراطى، ولكن فهمهم للديمقراطية ينصرف إلى أبعاد اقتصادية واجتماعية، مثل مكافحة الفقر، وتوفير الوظائف، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومكافحة الفساد. فضلا على أن أيا منهما لا يتمتع بتنظيم نقابى أو سياسى مستقل، أو فرص تعبير بلا قيود.
وأخيرا السياق العالمى والإقليمى تسوده فى الوقت الحاضر إما قوى شعبوية لا تساوى بين الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، أو قوى معادية أصلا للديمقراطية.
أعترف بأن هذا التحليل ينطوى على كثير من التعميم، وأن التحول إلى الديمقراطية قد تقوده قوى غير ديمقراطية، وأن التاريخ حافل بالمفاجآت.
ولكن هذا لا يعفى من يلومون ثورة يوليو على غياب الديمقراطية من مسئوليتهم عن تحديد القوى التى يمكن أن تقود مصر على هذا الطريق، أو محاولة بناء هذه القوى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved