الفتنة الطائفية: شهادة لها تاريخ

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 21 أغسطس 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

- فى مصر فتنة طائفية

هكذا بدا الأمر فى (٦) نوفمبر (١٩٧٢) عندما اشتعلت نيرانها فى «مركز الخانكة».

شكلت لجنة برلمانية لتقصى الحقائق ترأسها الفقيه القانونى الدكتور«جمال العطيفى» انتهت بعد عشرين يوما إلى استخلاصات وتوصيات لاقت قبولا عاما لكنها أودعت الأدراج إلى الأبد.

كان ذلك خطأ فادحا دفعنا ثمنه لنحو خمسة وأربعين سنة تمددت فيها الفتن واشتعلت النيران فى«سمالوط» و«أبو زعبل» (١٩٧٨) و«الزاوية الحمراء» (١٩٨١) و«شبرا» و«الزيتون» و«إمبابة» (١٩٩١) و«الكشح» (٢٠٠٠)، كما مناطق أخرى على الخريطة ربما لم يسمع باسمها أحد من قبل، حتى وصلنا فى (٢٠١٦) إلى أحداث مماثلة فى محافظات «المنيا» و«بنى سويف» و«أسوان».

لكل فتنة قصتها الجانبية التى تنفخ نيرانها وأسباب عميقة تذكيها.

ما هو جانبى يتغير من حالة إلى أخرى، وما هو عميق وراء الفتن كلها.

أسوأ خيار ممكن إنكار الفتنة وتجاهل نتائجها المدمرة على سلامة المجتمع، أو غض الطرف عن الفاعلين الأصليين وإعفاء القانون من أى دور، فهناك جرائم ترتكب ودور عبادة تحرق وحقوق وكرامات لمواطنين تنتهك وأبرياء وضحايا يسقطون دون ذنب.

فى الإنكار تمديد للفتن، وفى غياب السياسات المعروفة نلف وندور حول الملف الملغوم دون أن نتجنب انفجاراته من وقت لآخر.

أول الأسئلة الحقيقية: أين الأسباب الكامنة فى بنية المجتمع بأزماته وإحباطاته وثقافته الشائعة؟

وثانى تلك الأسئلة: ما السياسات اللازمة لمواجهة الفتن عند الجذور؟

رغم أهمية مشروع قانون دور العبادة الموحد فإنه ليس بذاته حلا يمنع الفتن، فمصر لا تنقصها عشرات الآلاف من المساجد ولا المسيحيون يفتقدون الكنائس التى يصلون فيها.

فى مصر فتنة طائفية.

بتلك الجملة القاطعة بدأ الكاتب الكبير الراحل «أحمد بهاء الدين» فى مارس (١٩٨٧) سلسلة أعمدة يومية استغرقت أسبوعا عن فتنة كادت تبدد السلام النفسى قبل الاجتماعى وتذهب بالعقل إلى ما يتجاوز الجنون.

فى تلك الأيام انشغلت مصر بقصص وشائعات عن «القماش الذى يظهر الماء عليه رسم الصليب والكف التى إذا صافحتك طبعت على يدك رسم الصليب».

بتعبيره: «كنت أرتعد لسريان هذه الخرافات وما يترتب عليها من حقائق نفسية وعقلية ومادية مرعبة».

كان قد مضى ربع قرن على «تقرير العطيفى»، وبدا الكلام كله عودا على بدء.

بذات القدر فإنه بعد ثلاثين سنة أخرى عود على بدء من جديد.

كأن مصر تكرر نفس الكلام دون أن تتقدم لتحسم.

نسمع الأوصاف نفسها عبر العقود المتتالية عند كل فتنة: «الأحداث المؤسفة»، «الأحداث الفردية»، «عناصر مدسوسة»، و«أيد أجنبية»، كأن «الكل برىء ولا أحد مسئول ونحن جميعا ملائكة».

فى كل مرة ترتفع الأصوات مطالبة بتحرك القيادات الرسمية والسياسية من العاصمة لمواجهة جذور المشكلة لا نتائجها، كأننا لا نتعلم من تجاربنا المريرة ولا نسعى لأن نضع أقدامنا على أول الطريق الصحيح.

وكأن ما كتبه الأستاذ «بهاء» قراءة لما سوف يكون لا ما كان يومها.

حاول أن يمسك بصلب الأزمة، أزمة التعصب، فـ«كل إنسان يوجد فى ركن من نفسه مكان يمكن أن ينبت فيه التعصب للون أو الجنس أو الدين».

التعصب هو المادة الخام لكل فتنة، و«له ميكانيكية ثابتة عبر كل العصور وكل المجتمعات، فالأزمة الاقتصادية وضيق الرزق وتوتر الحياة من أسبابه».

فى ردات الفعل الاجتماعية يجرى البحث عن أكباش فداء.

كما أن «الإحباط إزاء عدو خارجى مثلا، أو العجز عن مواجهة تحديات خارجية، يجعل الناس فى عجزهم ينكفئون على صراعات داخلية لم تكن موجودة من قبل».

«فإذا كان العنصر الخارجى صعبا فقد يهيأ للبعض أن العنصر الداخلى أسهل».. «وإذا انعدمت القدرة على مواجهة أعداء حقيقيين فالبحث يتجه تلقائيا إلى إيجاد أعداء غير حقيقيين للتنفيس».

المعنى أن التعاسة الاجتماعية، كما العجز الوطنى، من محركات الفتن، فضلا على إحباط الشباب الذى يعانى سوء التعليم والبطالة، والأفق مسدود أمامه، والدور السلبى الذى يلعبه الإعلام أحيانا والجهالات التى تنسب إلى الدين ظلما.

‫«‬هذه بذور التعصب التى يأتى من يصب عليه الزيت فتتحول إلى نار».‬‬‬

لم يكن كلام الأستاذ «بهاء» جديدا على الحياة العامة المصرية لكنه اكتسب تأثيره الكبير من وزن صاحبه فى لحظة خاصة كادت الخرافات أن تستبد بالمشاعر.

الروح العامة فيما كتب أقرب إلى مشرط جراح، يداوى دون أن يسيل دما.

كتب نصا عن «حقائق الموقف فى صعيد مصر»: «إن بعض التجار يرسلون بضائعهم إلى القاهرة خوفا من حوادث الحريق، وأن آخرين يخفون سياراتهم خارج المدن التى تعرضت لأحداث فتن طائفية، وأن البعض تقلع زراعاتهم فى ريف تلك الأماكن، وأن صاحب الدكان فى شارع مهم إذا أراد أن يبيع محله حدث سباق حاد وتساؤل هل سوف يشتريه قبطى أو مسلم، وكأنه موقف استراتيجى».

بتعبيره «فإن هذه حقائق أليمة ومريرة وقد جرى العمل على أنه لا يجوز نشرها علنا، ولكننى أؤمن بالمجتمع المفتوح وأن طرح المشكلة مهما كانت جارحة ومناقشتها علنا هو السبيل الوحيد لحلها، وأن تجاهلها يؤدى إلى تراكمها حتى تصل إلى الانفجار».
مصر تحتاج إلى مثل هذه المصارحات بغرض المواجهة لا الإثارة.

فى أى مواجهة جدية للشرطة واجبات وحدود، فهذه ‫«‬مشكلة لا تحل بواسطة الشرطة وحدها التى تتحرك حين يصل الأمر إلى الإخلال بالأمن، التظاهر والاعتصام وحرق المساجد والكنائس والدكاكين، فإذا تم قمع التظاهر وفض الاعتصام انتهت علاقة السلطة بالقضية».‬‬‬

«فن الحكم هو فن سبق المشكلات، مواجهتها وهى فى المهد وليس التأخر فى إطفاء الحريق بعد أن يكون قد أتى على كل شىء».

وقد أهدر دوما التحسب للمشكلات، فكل فتنة تبدو كما لو كانت واقعة مفاجئة تكفى لمواجهتها الجلسات العرفية وإعفاء القانون من أى دور.

‫«‬من حق أى إنسان أن يتحدث حتى بمنطق الجهل فى تمجيد دينه وجنسه وقومه لكن ليس من حقه أن يتحدث مهاجما دينا آخر، ولا بد من تجريم ذلك بالقانون. هذا تشريع مطلوب فالخط الفاصل بين ما يجوز وما لا يجوز هو القانون وليس الخطب المنبرية».‬‬‬

المعانى نفسها تتردد حتى الآن فى الفضاء العام دون أن تتحول إلى قانون.

‫فى مصر فتنة طائفية.‬‬‬‬

المعضلة الحقيقية أن القانون معطل، والأسباب الكامنة لا يجرى بحثها بما تستحقه من جدية كما طالب قبل ثلاثين سنة الأستاذ «أحمد بهاء الدين» وقبل خمس وأربعين سنة تقرير «العطيفى».‬

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved