فى حب القاهرة الكثير من الحزن

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 21 أغسطس 2019 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

ينسب إلى الكاتب الفرنسى فيكتور هوجو مقولة أن ثمة نوع من السعادة المستوحاة من الحزن، أفكر فى جملة عملاق الأدب الفرنسى وأنا أوازن بين لحظات أخيرة فى وداع مدينة وجدت فيها السعادة والحب والصداقات والأمومة، وبين سعادتى حين أتذكر وجوها ومناسبات عائلية واجتماعية على مدى سنوات قضيتها هنا.
***
أضحك حين أتذكر تعليقا لصديق يؤكد لى أن لا أحد يستطيع التخفيف من الهموم كالمصريين، أبتسم حين أستجمع فى ذهنى صورا لمساء أو مائة مساء مع أصدقاء، أحن إلى أيامى الأولى فى القاهرة حيث اختلط عندى شعور بالألفة وبالجديد، حين كنت أجد تقاطعات للقاهرة مع دمشق وباريس فى الوقت ذاته. أشعر بالرضا عن أوقات ظننت أننى لم أملؤها بما هو مفيد ثم رأيت فيما بعد أن المشى فى شوارع الحى دون هدف يجب أن يكون حقا من حقوق الإنسان، فبين الوقت الذى توقف عند العمارات القديمة ورائحة الكعك من فرن فى أول الشارع أظن أن ثمة لحظات سحرية من الصعب توقعها إذ نعيشها صدفة حين نمشى دون هدف فى الحى.
***
يختلط إذا عندى الوداع بلحظات لقائى الأولى بالقاهرة، المدينة التى استقبلتنى وارتبطت بها، ها أنا أمشى فى أيامى الأخيرة فيها فى شوارع كنت توقفت عن رؤيتها لكثرة ما مررت بها، أراها من جديد، أذكر نفسى بأيامى الأولى فيها، كمن يحاول استرجاع أيامه الأولى فى الحب: كيف كان الحبيب قبل سنوات ارتسمت على وجهه وجسده؟ هل كان صوته أوضح، ونظرته أنقى؟ هل كانت حركاته أخف وروحه أنشط؟
***
من يزور القاهرة يشعر وكأنه دخل فى الشاشة الكبيرة أو الصغيرة إذ إن القاهرة تشبه نفسها كما صورها المخرجون إلى حد كبير، حركة الشارع وسلام أصحاب المحال، نظرات بوابى العمارات المتفقدة لكل وجه غريب. لطالما استوقفتنى علاقة حراس العمارات بالسكان، هم حراس حياة الحى عموما وشهود على ما يجرى فى الشارع وفى مدخل العمارة بل وفى المساحة فى كل طابق حتى باب البيت الذى يغلقه أصحابه على أسرارهم.
***
يحكى كل من أعرفهم عن تدهور المدينة وتعبها من الحياة ومن الناس ومن الصدمات السياسية المتتالية التى انهالت عليها. أنا أمشى على أرصفة بحاجة فعلا إلى ترميم، وأبدل من طريقى تفاديا لحفرة يزداد عمقها مع الوقت بسبب قلة الاهتمام. لكنى أمشى أيضا بمحاذاة ابتسامة سيدة تبيع الخضار على ناصية شارع كبير، أسلم عليها وعلى ابنها الذى بلغ ربما عامه الخامس، أذكرها حين كانت حاملا به، هذه أيضا القاهرة وشوارعها؛ حيث تبدأ حياة جديدة ربما كل لحظة، حياة مكتوب لها القسوة وقد يكتب لها أيضا لحظات مسروقة من السعادة.
***
محل الحلويات يحتل مكانا كبيرا فى قلبى، ليس فقط بسبب ما يبيع إنما أيضا بسبب من يجلس فيه، هنا فعلا يبدو المنظر وكأنه فى فيلم مصرى قديم، رجال ونساء لكل منهم زاوية تعود على الجلوس فيها منذ كانوا شبابا يحتفلون بصداقاتهم هنا فى المحل. بائع للتحف القديمة يحكى قصصا عن البيوت والقصور التى اشترى منها ما يبيعه بعد أن توفى أصحابها ولم يرغب الأولاد بالقطع القديمة، مفضلين ما هو حديث، أو ربما ما هو خال من الذكريات. أنا نفسى أكرر لوالدى أننى غير مهتمة بقطع قديمة آخذها من بيتهم، لكنى فى كل زيارة إلى محل القطع القديمة أتساءل عم شهدته هذه القطع من قصص فى بيوت أصحابها.
***
بائع الورد عند الإشارة أعرفه منذ سنوات، وأتساءل هل يبدأ شخص يبيع الورد عند الإشارة ولا يتوقف عن ذلك طوال حياته؟ صباح الورد يا مدام، صباح الورد يا سيدى! وهل من ورد فى العالم أجمل من الورد البلدي؟ لا يملأ عينى ولا قلبى نماذج الورود المثالية المستوردة، أجدها بلا نكهة ولا جاذب بعودها الرفيع وأوراقها المخملية الكاملة. أين دلع الوردة البلدية وزكاء رائحتها؟ ها هى هنا فى الشارع مع البائع الذى يكبر مثلى كل سنة هو الآخر.
***
السيدة التى تبيع المناديل الورقية، لقد ذكرها أحد الكتاب الفرنسيين الذين عاشوا فى القاهرة منذ سنوات، بصوتها الرفيع ونظارتها السميكة، هى أيضا من علامات الحى التى لا تتغير رغم السنوات. صباح الخير يا مدام، أهلا يا حاجة. أظن أننى لم أشتر مناديل سوى منها طوال سنوات حياتى فى الحى.
***
أعترف أننى أحب البائعين المتجولين كثيرا، وأرى تناقضا سحريا بين تجوالهم وثبات بيعهم، بين تغير الشارع من حولهم وتراكمية علاقتهم بالسكان، نحن نعرفهم وهم يعرفوننا، نعرف عدد أطفال كل منا لكننا لا نعرف أكثر من ذلك. أكمل مشوارى فأمر أمام الحلاق، ها هو يهيئ نفسه لأسبوع مكتظ بالعائدين من المصيف وبأولاد يحضرهم أهلهم للسنة الدراسية الجديدة. بعد الحلاق سوف يتوقف الأولاد عند المكتبة القديمة التى اشترى يوما ما أهلهم أقلامهم منها أيضا. ربما كان البائع يومها والد البائع الحالى، فنظرة على صورة قديمة على حائط المكتبة تظهر الشبه بين الوجهين.
***
فى مشوارى الكثير من الحب والرضا، والكثير من الحزن والنوستالجيا، تماما كما فى وصف فيكتور هوجو لما قد يضحك عليه أحد أصدقائى المصريين بقوله «حتى فى السعادة فى نكد؟». نعم وفى حب القاهرة الكثير من الحزن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved