الصحافة والحرية!

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 21 أغسطس 2019 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

فى لقاء مشمول بدفء الفهم المتبادل المشترك، جلست من عدة سنوات فى قاعة المحاضرات بالأهرام إلى عدد كبير من الصحفيين.. معظمهم من الشباب، وجيل الوسط.. لأتحدث إليهم عن مشاغل الصحافة تلك الأيام وشاغلنا ـ الكلمة التى باتت مصابة فى زماننا بفصام وأدران.. إلى أين؟ غايتها وضوابطها وحدودها، لتسهم ـ فى ميدان صاحبة الجلالة ـ فى إعطاء مدد فكرى ومعنوى لقضية حقوق الإنسان، وكيف يمكن أن تقوم بدورها البناء والضرورى واللازم فى مناقشة القضايا العامة، وتنوير الرأى العام، وحماية مصر والمصريين مما عساه يفرط من الإدارة تعديا على حقوق المصريين، وعلى ما يجب كفالته لهم ولاحتفاظ الدولة بأسسها كدولة دستورية تحترم الدستور والقانون، وتحترم الشعب وحقوقه، ولا تجاوز حدودها أو تتعداها!
جميل أن تلتقى الصحافة، على بحث دراسة رعاية حقوق الإنسان ودعم حرية الصحافة باعتبارها فى مقدمة أولويات كفالة حرية الرأى والتعبير، ومنارة الناس للإلمام بالمعلومات والرؤى ومعايشة الأحداث الجارية ـ المحلية، والعربية، والعالمية، معايشة تكفل قاعدة معلوماتية واسعة ـ أفقيا ورأسيا، وتحقق قدرة البحث الموضوعى المدقق القائم على هذه القاعدة، واستخلاص الرؤى والآراء والأفكار للمساهمة الواعية الفاهمة الرشيدة فى نهر الحياة الذى لا يتوقف.
وجميل أيضا هذه التلبية الملحوظة لجيل الوسط، ولشباب الصحفيين الذين دلت كثافة تواجدهم يومذاك، وثراء مداخلاتهم وأسئلتهم ومناقشاتهم، على أن فيهم شعلة واعدة ومبشرة، تورى بأن الكساد الذى ران على فئات مهنية أخرى، لم يطل شريحة مهمة وواعدة من شباب الصحفيين، والذين ربما حفظهم من «البارومة» المتفشية ـ أنهم يمتلكون بحكم عملهم وتغطياتهم لكثير من الأحداث الجارية، وملامسة عواملها ومؤثراتها والإلمام بأسرارها وعناصرها الفاعلة، بما يتيح مساحة أوسع من الفهم والقدرة على التحليل، يغذى ذلك ويثريه أن العمل الصحفى يتيح الاقتراب من رموز فى الفكر والأدب والفن والحكم.. وهؤلاء على اختلافهم ـ يمثلون عقل الأمة، ويعبرون عن مجمل اهتماماتها وقضاياها، وعلى قدر أكثر من العقل والفهم، الأمر الذى يحقق للصحفى الطموح ـ مساحة واسعة من استقبال ما لدى هؤلاء من علم وثقافة ومعرفة وفهم وفكر.
يومها ساهم فى إثراء الندوة والحوار، أن القضية بكل أبعادها تشغل الصحافة والصحفيين من زمن، وتثير فى جانب من جوانبها المتصلة بالمسئولية وعيارها وعوادمها أو جزاءاتها ـ تثير التهابا وغضبا يجمح أحيانا ليعبر عن نفسه فى صورة بالغة الغضب والانفعال، تستهجن كيف يمكن تعرض الصحفى للحبس الاحتياطى أو الحبس العقابى التنفيذى على أدائه لعمله فى محراب صاحبة الجلالة التى هى روح وعين وضمير الناس ووسيلتهم للإطلال على العوالم الظاهرة والخفية، والإحاطة بأسرار كان يمكن أن تظل وراء أستار الخفاء لولا الصحافة التى تتعب وتكد وتستقصى وتخاطر وتجالد وتعارك أحيانا ـ حتى تجمع فى الجراب زادها لتقدمه من بعد إلى جمهور الناس مشفوعا ومضفرا برؤيتها وأفكارها ونقدها!
يومها تحدثنا عن أن الضوابط اللازمة لاحترام ميثاق العمل الصحفى، وعدم الجور على حقوق الناس، يمكن تحديدها دون أن تنال من حرية الصحافة ووجوب أن يبقى باب ممارستها مفتوحا للصحفى على مصراعيه، لا يقيده شىء إلا قيد عدم الإساءة المتعمدة للغير، وبسوء نية، وبلا غاية مشروعة.. وهو قيد لا يختلف عليه أحـد وفقا لمبادئ حرية الصحافة، وهى مبادئ تنطوى على بحبوحة واسعة، ما التزم الصحفى والتزمت الكلمة بغايتها المحمودة فى النقد الموضوعى وفى الإخبار والإنباء والتعليق، بل ومهما اشتدت عبارته، ما دام هدفه المصلحة العامة، وما دام عمله خاليا من الغرض المغلوط فى الإيذاء لذاته!
إن حق الصحفى فى النقد، وفى الإخبار والإنباء، حق دستورى، وفرع على نظرية عامة شاملة هى نظرية استعمال الحق، المقننة فى المادتين 7، 60 من قانون العقوبات المصرى. وهى نظرية تفرعت عنها حقوق وإباحات عديدة، كحق الدفاع أو التأديب.. وفى مقدمة هذه الحقوق حق الإنباء والإخبار عموما، وبالأخبار القضائية، وحق النقد.
لا يجوز بزعم هذه الرعاية الواجبة لحقوق الآخرين المصادرة على حرية الصحفى والصحافة. إن حرية الرأى المرعية دستوريا تحمل فى رحاب الفكر ـ وواجب حملها فى رحاب القضاء ـ على أوسع معانيها، فيدخل فى باب حرية الرأى المعلومات والأنباء، وتقديرات الحوادث والأشخاص والتصرفات والأشياء والأعمال سواء كان أساسها العقل أو الشعور.. وتشمل الإعراب فيما يتعلق بالمسائل العامة أو التى تهم مصلحة عامة ـ عن جميع المشاعر المردودة إلى التقدير من غضب وخوف ويأس وحزن، أو من رضا وأمل وفرح واستحسان.. كما تشمل الإعراب عن أية فكرة تنفى خطأ أو تثبت صوابا أو تبين حقيقة أو ترفضها ببرهان عقلى أو فكرى أو علمى.
وحق النقد، فرع هام جدا على هذه الحرية النابعة من نظرية استعمال الحق التى تعطى الصحافة والصحفى مشروعية الوجود والأداء والحماية.. وحق النقد هو لب جوهر حرية القول والفكر.. وهى ممارسة لا تتجه أساسا إلى القذف والسـب والإهانـة ـ ولا يقصـد منها التشهير والمساس بشرف الغير أو اعتباره أو سمعته، وإنما يتجه النقد أساسـا إلـى النعـى علـى
«تصرفـات» أو «سـلوكيات» أو «أعمال» أو «سياسات» واقعة أو حاصلة أو حادثة فعلا واتصلت بجمهور الناس فى شأن من الشئون العامة، ولأن النقد أو التعليق لا يجرى بطبيعة الحال لمصلحة أو على هوى ورغبة المنقود، كذلك فإن حرية النقد تنبع من مفهوم أن القانون وإن كان يحمى «شرف» كل شخص واعتباره «حمايـة عامـة»، إلا أنه لا يقـدس ولا يحمى «التصرفات» التى تصب لدى الرأى العام الذى يملك وحده الازدراء والرفض، أو المجد والنعمة يوزعها دون أن يكون فى مقدور أحد أو سلطة أن تمنع هذه أو تضمن تلك لأحد من العباد!
خذ مثلا ـ المادة 302 من قانون العقوبات المصرى، إنها تجرم القذف، ومع ذلك فإنها تخرج من دائرة التجريم الطعن فى «أعمال» الموظف العام أو ذى الصفة النيابية العامة أو المكلف بخدمة عامة ـ متى حصل بسلامة نية، وكان صادقا، ولم يتعد «أعمال» الوظيفة العامة أو ما فى حكمها.. هذا التناول للأعمال والتصرفات من النقد المباح الذى لا خلاف على إباحته، فهو لا يسب الأشخاص وإنما يقدم خدمات جليلة للرأى العام.
هذا والحوار حول نشر أنباء الجرائم والمحاكمات، حوار عالمى موصول وممتد.. تستدعيه ظواهر عديدة، ولا بأس ولا ضير من النشر ما دام يلتزم الأمانة والدقة والحيدة والاعتدال، وحين يبعد عن الإثارة المغلوطة التى تقصد لذاتها أو تقصد إشفاء الغليل كذبا بغير حق.
يومها نجحت الصحافة، فى أن تدفع الدولة ـ سنة 2006 ـ إلى إدخال تعديلات جوهرية على كثير من المواد التى كانت تقرر حبس الصحفيين، وأدت هذه الغاية إلى إلغاء هذه العقوبة فى السب والقذف بإجمال تحاشيا لمخالفة مبدأ المساواة الدستورى.
لم يكن فى حسبان أحد، أنه لن تمضى خمس سنوات، إلا وترتد الإدارة المصرية فى ظل حكم الإخوان، لتنقض على الصحافة، وتحبك عملية أخونة الصحافة من خلال عملية مؤسفة تمت فى فترة الريبة التى كان مجلس الشورى ينتظر الحكم المؤكد بحله لأنه قد شاب تشكيله ذات ما شاب تشكيل مجلس الشعب، ثم طفقت الإدارة الإخوانية تتابع مسيرة ضرب الصحافة والإعلام من خلال مطاردة الصحفيين بالإحالة إلى محكمة الجنايات، وإغلاق قنوات، والتهديد بإلغاء غيرها، والإطاحة برئيس تحرير الجمهورية وعدم احترام الحكم القضائى القاضى ببطلان عزله وبإعادته إلى موقعه.. وجعل الانهيار يتداعى حتى بتنا نرى الصحافة معتقلة والصحفيين مهددين ليس فقط فى مواقعهم وأرزاقهم، بل فى حيواتهم !!
على أن الغمة قد انقشعت وزالت من سنوات، وباتت الفرص مهيأة أمامنا لاستعادة حرية الصحافة، ففيها حياة الأوطان، وحقوق الشعوب، ولا شك أن صدور العديد من الصحف المستقلة والحزبية، يخلق باعثا على المنافسة فيما بينها من ناحية، وفيما بين الصحف العريقة كالأهرام والأخبار والجمهورية من ناحية أخرى، وقد زاد الدستور المصرى الصادر بيناير 2014 كفالة حرية الصحافة وحقها فى الحصول على المعلومات، ومن ثم كفالة المنافسة والتنوع، إلا أنه صار ملحوظا أن مانشيتات بعض الصحف تكاد تتطابق فى اليوم الواحد، وهذه علامة غير طيبة، وأن المادة نفسها تفتقد التنوع بل وتكاد هى الأخرى تتطابق، فيما عدا السياسة العالمية والأخبار الخارجية، وبعض أقلام الكتاب الذين يعبرون عن ما يراه أو يفسحه كل منهم لنفسه، وظنى أنه لا يزال واجبا علينا أن نفسح للصحافة لتتقدم إلى ما قرره الدستور الصادر بشبه إجماع شعبى، وإلى ما تستوجبه حقوق ومصالح الوطن، لا سيما وأعباء الصحف فى ازدياد لأسباب عديدة مما بات يهدد الصحافة الورقية، وكذلك الكتاب، وهو ما لا تغنى عنه التعليقات السريعة العابرة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى.
الصحافة الورقية، مع الكتاب، هما روح وثقافة وبصيرة الأمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved