محمود رضا وقوة مصر الناعمة

وليد محمود عبد الناصر
وليد محمود عبد الناصر

آخر تحديث: الجمعة 21 أغسطس 2020 - 11:00 م بتوقيت القاهرة

رحل الفنان الكبير محمود رضا عن دنيانا عن عمر يناهز التسعين عاما بعد رحلة حياة طويلة مليئة بالكفاح والعمل والجهد والعطاء والتفاعل الخلاق مع البشر من حوله، داخل مصر وخارجها، رحلة امتزج فيها الفن بالثقافة وبالعمل العام، كما جمعت بين التألق على الأصعدة المحلية والوطنية من جهة، وبين التميز والحصول على التقدير والإشادة والتكريم على المستويات الإقليمية والعالمية من جهة أخرى.
وقد سعدت وشرفت بمعرفة الفنان الراحل على صعيد شخصى فى وقت متأخر نسبيا، أى منذ ما يقترب من عقدين من الزمان تقريبا، وتزامن ذلك مع اكتمال إدراكى لحجم الأثر الإيجابى والضخم الذى تركه محمود رضا فى مجال نشر العديد من أوجه فنون الرقص الشعبى المصرى فى مناطق عديدة من العالم، كنت شخصيا شاهدا عليها فى حالتين محددتين خلال السنوات المنقضية من حياتى وعملى وإقامتى خارج مصر، وهما الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، وقد كتبت فى مناسبة سابقة عن شهادتى على هذا الأثر فى اليابان، ولذا فإننى أتناول هنا شهادتى عن هذا الأثر فى حالة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تحولت فرقة رضا، التى أنشأها عام 1959 كل من الفنانين الراحلين الشقيقين على رضا ومحمود رضا والفنانة فريدة فهمى زوجة الفنان على رضا، إلى ملحمة فنية وثقافية مصرية حية ونابضة بكل ما تحمله تلك الكلمات من محتوى ودلالة، إلى الحد الذى جعل البعض يصفها بأنها «بولشوى العرب»، فى مقارنة ملفتة مع فرقة باليه «البولشوى» السوفيتية ثم الروسية الشهيرة وما لها من بصمات على صعيد الفن العالمى، ومثل فرقة «البولشوى» بالنسبة للاتحاد السوفيتى ثم بالنسبة لروسيا، كانت فرقة رضا أيضا مظهرا من مظاهر القوة الناعمة المصرية ومصدرا لتلك القوة فى آن واحد.
وبالرغم من أن فرقة رضا تعرضت بعد إنشائها بفترة قصيرة إلى ما يشبه «التأميم» كما حدث مع مؤسسات كثيرة اقتصادية وثقافية وفنية فى مصر فى مطلع ستينيات القرن العشرين ضمن توجهات القيادة السياسية للدولة المصرية فى ذلك الوقت، إلا أن من المزايا كان إبقاء إدارة الفرقة بقيت فى يد الأخوين الراحلين رضا، وإن كان فى سياق جزء من هيكل حكومى بيروقراطى فى ذلك الوقت. وكان قرار إبقاء الإدارة فى يد من أنشأ الفرقة قرارا ذكيا أدى من الناحية الفعلية إلى إبقائها حية وفاعلة ونابضة حتى يومنا هذا، وإن خضع الفنان محمود رضا لقواعد العمل الحكومى مثل الإحالة للتقاعد فى سن المعاش، وبعد ذلك تفرعت عنها لاحقا فرق خاصة عديدة ومتتالية اكتسبت مهاراتها وخبراتها الأساسية منذ وقت انضوائها ضمن الفرقة الأساسية والأم «فرقة رضا»، ومن الأستاذ الأكبر الراحل «محمود رضا».
وخلال عدة سنوات عملت فيها وأقمت بالعاصمة الأمريكية واشنطون فى مطلع الألفية الثالثة، بدأت أتعرف عن قرب وأدرك بعمق مدى التأثير الكبير والواسع لفرقة رضا وفنونها ورقصاتها وأغنياتها الشعبية التى شكلت كل منها لوحة ثقافية وفنية ومجتمعية متكاملة ومتميزة غطت مختلف محافظات وأرجاء ونجوع مصر من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وتحديدا المكانة الكبيرة التى يحظى بها الفنان الكبير الراحل محمود رضا لدى الكثير من كبريات المؤسسات المعنية بالفنون العالمية، سواء فى العاصمة الأمريكية أو خارجها، ضمن مدن مختلفة كانت تقع فى ولايات أمريكية كثيرة. كما أن الكثير من معاهد الرقص فى العاصمة الأمريكية وغيرها من المدن كانت تستلهم من رقصات واستعراضات فرقة رضا الغنائية تابلوهات متنوعة لتدريس الأمريكيين والأمريكيات فنون الرقص الشعبى المصرى، باعتبار ذلك فنا رفيعا بعيدا عن الابتذال أو الامتهان أو الإثارة.
كذلك كنت شاهدا على مدى تلك السنوات على حجم ومستوى الدعوات التى كانت توجه للفنان الراحل محمود رضا وللفنانة الكبيرة فريدة فهمى للمشاركة كضيوف شرف أو كرؤساء أو أعضاء هيئات تحكيم فى مهرجانات ومسابقات لفنون الرقص الشعبى الشرقى والمصرى والاستعراضات الغنائية الراقصة الشرقية والمصرية فى الكثير من المدن الأمريكية، أو حتى دعوتهما لمجرد إلقاء كلمات الافتتاح فى تلك المهرجانات والمسابقات أو للقيام بمراسم تلك الافتتاحات والإطلاقات لتلك الفعاليات، ونتيجة لضخامة عدد تلك الدعوات، فقد كان على الفنانين الكبيرين فى معظم الأحوال الاعتذار عن الكثير من تلك الدعوات، وفى بعض الأحيان كانا يكتفيان بتوجيه رسائل نصية أو مصورة ليتم إلقاؤها فى افتتاح أو ختام تلك الاحتفاليات.
وعلمت خلال سنوات إقامتى وعملى فى العاصمة الأمريكية واشنطون من أصدقاء أمريكيين ممن كانوا ضمن صفوف المخضرمين فى مجال الاعتناء بالشأن الفنى والثقافى العام، سواء على المستوى الشخصى أو المؤسسى، أنه حتى خلال سنوات فى فترات تاريخية سابقة كانت فيها العلاقات المصرية الأمريكية على الأصعدة الرسمية غير جيدة أو تتسم بالجفاء أو البرود، كان هناك دوما شعبية طاغية لدى الشعب الأمريكى بصفة عامة، ولدى المعاهد والمؤسسات الأمريكية المعنية بالثقافة والفنون، خاصة الشرقية والمصرية منها، للفنون والاستعراضات والتابلوهات والرقصات التى كانت تقدمها فرقة رضا المصرية للفنون الشعبية.
وعلى صعيد آخر، كانت هناك الكثير من المؤسسات والمعاهد الأمريكية المعنية بتعليم الفنون الشعبية المصرية التى كانت تستعين بالفنان الراحل الكبير محمود رضا كمستشار لها يتردد عليها مرات زادت أو قلت على مدى العام الواحد، حيث كان يشرف على إعداد البرامج التدريبية للدارسين والدارسات بتلك المعاهد والمؤسسات، وفى بعض الأحيان، كان هو رحمه الله المسئول عن تصميم رقصات واستعراضات وتابلوهات معينة تشكل العماد الأساسى للبرنامج التدريبى لتلك المعاهد والمؤسسات، وكان جلها يسير على نفس منوال الرقصات والاستعراضات الأصلية لفرقة رضا بما ينقل الدارسين والدربين والمشاهدين من الأمريكيين إلى أجواء مصر: ريفها فى وجه بحرى أو صعيدها فى وجه قبلى أو شبه جزيرة سيناء أو المنطقة الشمالية الغربية حيث مدن مطروح والسلوم أو منطقة الواحات فى صحراء مصر الواسعة والثرية بعطائها أيضا أو أهل منطقة النوبة، أو القاهرة أو الجيزة أو مدن القناة من بورسعيد والاسماعيلية والسويس أو المدن الساحلية وفى مقدمتها الإسكندرية بالطبع.
وأدرك يقينا أن هذا التأثير لفرقة رضا بشكل عام، وللفنان الراحل محمود رضا تحديدا، كان له دوره فى جذب الكثير من الأمريكيين على العمل والتخطيط من أجل السفر للسياحة فى مصر والتعرف على هذه الأماكن الأصلية التى عكست أجواءها رقصات فرقة رضا فى شكل تابلوهات غنائية راقصة واستعراضات للفنون الشعبية المختلفة التى مثلت ثقافة وعادات حياتية اجتماعية لأهالى مختلف مناطق وأقاليم مصر، كما أنه حبب للكثير من الأمريكيين الثقافة والفنون المصرية الحديثة ودعاهم لعدم الاكتفاء فقط بالتعلق بمصر الفرعونية أو بالتاريخ دون الواقع الراهن والمعاش، كذلك فقد خفف فى العديد من الفترات من تأثير توترات فى العلاقات الرسمية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا كان الفنان الراحل محمود رضا وتراثه وتراث فرقة رضا، وسيبقى، جزءا لا يتجزأ من قوة مصر الناعمة فى الماضى والحاضر والمستقبل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved