دراما كوين
كارولين كامل
آخر تحديث:
الإثنين 21 أغسطس 2023 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
أفضل قضاء الوقت برفقة الأطفال والمراهقين، أحكى لهم وأنصت إليهم، ويجد عدد من الأطفال سواء الأقارب أو أبناء الأصدقاء المقربين لى فى شخصى مصدر ثقة، يطرحون الأسئلة التى سبق وطرحوها على والديهم ولم تقنعهم الإجابة، أو يشاركوننى قصصا طريفة ومغامرات فى حياتهم اليومية.
من فترة تلقيت من طفلة مقربة لى جدا لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، رسالة على إنستجرام تقول لى: «مش حاسة هكون مبسوطة تانى.. لكن لازم أعمل move on».
لا نلتقى أنا وهذه الطفلة كثيرا لوجودها فى مدينة أخرى، ولكن من وقت لآخر نتبادل الرسائل المطولة، هذه الطفلة اللطيفة «اللمضة» التى تنتقد موضتنا القديمة فى كثير من الأشياء، تذكرنى كم كنا أطفالا مختلفين عن أبناء هذه الأجيال الجديدة، فأنا فى صغرى كنت أراقب أمى، وكيف ترتب مظهرها وأتمنى أن أحاكيها، وإن كان لدى تحفظ الآن على موضة التسعينيات خاصة الجواكت والفساتين ذات «الكتافات» المرتفعة المخيفة.
عودة إلى رسالتها الغامضة، جاوبتها بسؤال عن سبب شعورها بهذا القدر من اليأس، فطلبت منى أن نستخدم نظام الـ vanish mode الذى يتيحه الانستجرام، حيث تختفى الرسائل فور قراءتها، تحسبا لانقضاض أمها (صديقتى) على هاتفها، ولأول مرة أشعر بالتوتر والمسئولية مما ستشاركنى إياه، وإن كان ما سأعرفه يجعلنى فى موقف يتطلب منى التدخل الفورى، أو إطلاع والدتها لتتخذ هى زمام الأمور.
تلقيت الرسالة الصوتية الأولى، تعجبت من النبرة التى تحدثنى بها، نبرة هائمة تحكى بها عن طفل يكبرها بعدة سنوات، تبادلا الإعجاب فى النادى، وأسهبت فى مدحه والتغزل فيه، وحكت أنهما اتفقا على أن يكرس كل منهما حسابه على إنستجرام من أجل الإعجاب بمنشورات الآخر، وعدد محدود من الأصدقاء.
انتهت الرسالة دون أن أفهم ما علتها إن كانت قصة الحب من الطرفين، والتعهدات الأبدية الحصرية بينهما واضحة، إلا لو كانت تطلب منى إقناع والديها بأن يتزوجا قبل الثانوية العامة، أرسلت لها: «وفين المشكلة يا بنتى؟»، كتبت لى: «يعنى ده حب حقيقى صح.. ولا أنا فهمت غلط؟».
• • •
كالعادة عندما أعجز عن الرد الفورى، أباغت السؤال الموجه إلى بآخر مضاد، حتى يتسنى لى التفتيش عن أفضل إجابة، فسألتها ما غرض سؤالها، أرسلت إلى رسالة صوتية تقول فيها: «عشان هو بطل يحبنى.. وبيحب صاحبتى دلوقتى».
حملت رسائلها المتتالية ما أشارت إليه بكونه الأدلة والبراهين على غدره، بداية من توقفه عن متابعة قصصها على الإنستجرام وتوقفه عن الإعجاب بمنشوراتها، وصار عوضا عن ذلك أول من يبدى إعجابه بمنشورات صديقتها على الإنستجرام والتيك توك.
هذه المرة سألتها بجدية عن بداية اكتشافها لانتقال اهتمامه منها إلى صديقتها، فقالت لى فى رسالة مقتضبة «أما بقى يحط لها قلوب حمرا فى التعليقات»، غالبية تعليقاتنا على السوشيال ميديا تحمل قلوبا بشتى الألوان وإن كان الأحمر هو الأكثر شعبية، إلا أن الطفلة صديقتى شرحت لى أن القلب الأحمر يحمل معنى الحب الذى يتبادله المحبون، بينما الأخضر والأبيض والأزرق وغيرهم تعبر عن الحب الإنسانى الذى نكنه لأصدقائنا وأسرتنا.
بدت لى معاناة صديقتى تافهة وسهلة، وفى جعبتى عشرات الحجج المقنعة التى ستجعلها تنفض ذكراه فورا، أرسلت لها تسجيلا صوتيا قلت لها باختصار «انتى لسه صغيرة وهتحبى مليون مرة.. معلش»، تلقيت رسالة فيها تنهيدة وسؤال «انتى قابلتى الـ soulmate إمتى؟».
لم أجاوبها، فاتصلت وأخبرتنى أنها قد تغلق الخط دون إنذار عندما تدخل والدتها الغرفة، سألتها باهتمام إن كانت تقصد بهذا الطفل أنه توأم روحها، صححت لى أولا أن المسمى ينطق بالإنجليزية، وكثير من المصطلحات لا ننطقها بالعربية لأنها تفقد معناها ويتوجب على أن أكون على دراية بهذه المعلومات لكونى صحفية.
أكدت على أنه بالفعل «النص التانى» المنشود لحياتها، ثم روت لى كيف أنهت أيضا صديقتها صداقتهما، وألغت متابعتها لها على السوشيال ميديا، وبعدها ألغى هو الآخر متابعته، وهو ما أكد لها أن صداقتها وعلاقة حبها انتهيا فى يوم واحد، ولابد أن تنتهى حياتها أيضا.
أغلقت الخط فجأة فعرفت أن والدتها عادت، فأرسلت لها رسالة صوتية بانفعال أقول لها «ايه يا بنتى.. انتى بتشتغلينى ولا ايه»، فباغتتنى بسؤال مسجل «إمتى أول مرة حسيتى مش عايزة تصحى من النوم لأن الحياة مبقاش فيها حاجة تستحق».
• • •
تكرارها لعدم جدوى الحياة صار مؤكدا بالنسبة لى، وهذه هى اللحظة التى استشعرت فيها أن التصرف الصحيح الوحيد هو أن أتصل بوالدتها وبدون تفاصيل أروى لها أن ابنتها بحاجة إلى رعاية وتدليل ومراقبة، ولكن خوفى الوحيد من أن أخسر صداقتها جعلنى أتراجع، تنحنحت وسألتها من أين أتت بهذه الأفكار السوداوية، وأن من وقع خبرتى لابد من أن يكون هناك تدخل نفسى من ذويها وربما من طبيب حتى لا تسوء حالتها.
ردت برسالة صوتية «هو انتى ليه يا كارو drama queen كده فى نفسك.. يعنى أكيد مش هنتحر عشان واحد مقدرش الحب الحقيقى.. أنا لازم move on ويشوف هو ده بعنيه».
عادت لاستخدام الإنجليزية، بل وتهكمت على رد فعلى، وشعرت لوهلة أنى بالفعل تعاملت بجدية مفرطة مع موضوع لا يستحق، سألتها عن خطتها الفترة القادمة حتى تتجاوزه، طمأنتنى أنها ستلغى متابعته بل أن «البلوك» صار مصيره، وختمت «بس طبعا هتابعه بالأكونت التانى بتاعى اللى هو ميعرفوش».
لا أعرف إلى أى مدى كنت مفيدة لها فى هذا الحوار، وهل يتحتم على مشاركة والدتها ما عرفته، أخبرتنى أن جميع صديقاتها لديهم تجارب مشابهة ومع شباب فى الجامعة أيضا، أخبرتها أن طبيعة العلاقات التى يكون فيها تفاوت عمرى كبير إلى هذا الحد بين الطرفين يعد جريمة، لأنها لاتزال طفلة وطالب الجامعة يستحق التوبيخ والإنذار بفضحه، طمأنتنى أنها غير مهتمة بالأكبر منها سنا.
• • •
تبدو لى تربية طفل فى هذا الزمن وفى هذه البقعة من الكوكب صعبة، فالعالم مفتوح ومغر ولكن الإمكانيات محدودة جدا، إدمان استخدام الهواتف لدى الأطفال لم يعد مجرد آفة بل ظاهرة، وأصبحت الحياة مجرد خوارزميات تراقبنا وندمنها، ويجد الآباء والأمهات ملاذهم للتخلص من إزعاج أطفالهم فى تركهم بالساعات محدقين فى الشاشات يعيشون عوالم مختلقة تبدأ فيها علاقات وتنتهى بقلوب ملونة، وإن كانت حياتهم وصحتهم النفسية فى خطر حقيقى، وحريتهم فى هذه السن ليست إلا متخيلة، ولن يتحقق منها أى شىء فعليا، وستكون صدمتهم ضخمة عندما يصدمهم الواقع.