من تونس دروس فى التطور الديمقراطى

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 21 سبتمبر 2019 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

فاجأت نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية التونسية المعنيين مباشرة بها، أى المواطنين التونسيين، كما أنها باغتت المراقبين والمهتمين بها فى كل مكان وفى المقدمة العرب من بينهم. أول ما يقال بشأن المفاجأة والمباغتة أنهما أكدا من جديد أن الانتخابات فى تونس هى انتخابات تنافسية ديمقراطية حقة لا مجال لمعرفة نتائجها مسبقا. يلاحظ بعد ذلك أن وكالات استطلاعات الرأى عملت بحرية عند خروج الناخبين من مراكز الاقتراع فاستطاعت أن تعلن وبدقة تقديراتها لنتائج العملية الانتخابية بعد ساعات قليلة من انتهائها. الملاحظة الثالثة المرتبطة بالسابقتين هو أن كل المرشحين قبلوا النتائج المعلنة ولم يشكك أحد منهم فى نزاهة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التى أشرفت عليها وأعلنت النتائج. بعد هذه الملاحظات، يستعرض المقال النتائج الرئيسية للانتخابات ثم يحاول استخراج الدروس منها، وهى دروس لا بد أن تكون مفيدة لكل الداعين للديمقراطية وللمنخرطين على دربها فى العالم العربى.
الفائزان اللذان انتقلا إلى الدور الثانى للانتخابات هما قيس سعيد ونبيل القروى. الأول أستاذ للقانون الدستورى، مستقل لا ولم ينتم إلى أى حزب من الأحزاب، والثانى رجل أعمال فى مجال الإعلام وصاحب قناة تليفزيونية، كان مؤيدا للرئيس السابق، قايد السبسى، ولحزبه «نداء تونس»، ولكنه خرج عليه، وعمل فى المجتمع المدنى ثم أنشأ فى شهر يونيو الماضى فقط حزب «قلب تونس». سعيد أحرز 18.4 فى المائة من الأصوات والقروى 15.5 فى المائة منها، بينما كان نصيب الثلاثة الذين تلوهم وخرجوا من السباق 12.8 فى المائة لعبدالفتاح مورو، رئيس مجلس النواب بالإنابة مرشح حزب حركة النهضة المجسد التاريخى للإسلام السياسى، و10.7 فى المائة لعبدالكريم الزبيدى، وزير الدفاع المستقيل والمستقل الحاصل على مساندة حزبين هما «نداء تونس» و«آفاق تونس»، و10.7 فى المائة ليوسف الشاهد، رئيس الحكومة ومرشح حزب «تحيا تونس». لم يشفع منصبا رئيس الحكومة ووزير الدفاع للشاهد أو للزبيدى، ولم ينفع موقع رئاسة مجلس النواب مورو. تونس والتونسيون يستحقون التحية على ذلك.
***
لم يدر سعيد حملة انتخابية بالمعنى المفهوم للحملات، وهو رفض التمويل الذى تخصصه الدولة قانونا لحملات المرشحين، وجمع المال من أفراد عائلته لتمويل نشاطه الانتخابى. جال سعيد فى مختلف أنحاء تونس، محاطا بطالباته وطلابه وحدهم، كان مضمون رسالته أن يعمل النظام السياسى من أجل تلبية مطالب التونسيين. سعيد الذى كان التونسيون قد عرفوه أستاذا ومعلقا تلفزيونيا لا يتحدث إلا بالعربية الفصحى، بليغا مفوها، فى السنوات التى تلت الثورة وفيها كتب الدستور، شدد على احترام الدستور، ومن أفكاره تحديث الهيئات الدستورية، ومنح صلاحيات أوسع للمستويات المختلفة للحكم المحلى، والأخذ بمزيد من الديمقراطية المباشرة. أما القروى فلم يستطع أن يشن حملة انتخابية لوجوده فى السجن الاحتياطى متهما بغسيل الأموال وبالتهرب الضريبى، ولكنه كان قد استفاد من قناته التليفزيونية «نسمة» التى منها نفذ إلى الجمهور وهو خاصة جنى ثمار أعماله الخيرية عبر جمعيته «خليل تونس» لمعونة الفقراء الذين ذهب إليهم فى أماكن معيشتهم فى السنوات الأخيرة.
بالإضافة إلى مورو والزبيدى والشاهد، كان السقوط إلى طبقات أدنى من نصيب مرشحين معروفين آخرين، منهم من كان رئيسا سابقا للجمهورية مثل منصف المرزوقى، ومن كان رئيسا للحكومة فى وقت قريب مثل حمادى الجبالى، أمين عام حزب النهضة السابق، ومن كان مناضلا سياسيا يساريا قديما مثل حمة الهمامى.
لم ينجح ممثلو الأحزاب ولا المرشحون الذين خبروا المعترك السياسى والحكم فى السنوات التى تلت الثورة، ومر إلى الدور الثانى مرشحان من خارج الساحة السياسية، اعتبر كلاهما معارضا للمنظومة السياسية، بمعنى معارضتهما لمن سيروا النظام السياسى وطريقة تسييرهم له، وليس قط بمعنى معارضتهما للنظام السياسى لما بعد ثورة 11ــ 2010. قيس سعيد مثلا هو من قلب تيارات الثورة حتى أنه اختار شعارا له «الشعب يريد»، وهو عنوان الثورات العربية، صكته تونس ومنها انتقل إلى مصر ثم انتشر فى مجمل العالم العربى.
غير أن بين الحريصين على تقدم التجربة الديمقراطية فى تونس من لم يرتح إلى انتقال سعيد والقروى إلى الدور الثانى، باعتبار أن الأول لا خبرة له مطلقا فى السياسة أو العمل التنفيذى، وبسبب أفكاره شديدة المحافظة فهو ضد إلغاء عقوبة الإعدام كما أنه ضد مشروع القانون الذى ينص على المساواة فى الميراث بين الذكر والأنثى. أما القروى فيعتبره أنصار الديمقراطية شعبويا، ذا أفكار غير قابلة للإدامة، فضلا عن استنكارهم لشبهة الفساد التى تحوم حوله.
***
إذا تركنا الاستعراض الأولى للنتائج، نجد أن محللين تونسيين أخذوا تحليل بيانات الانتخابات إلى مستويات أخرى أكثر دلالة. هذا التحليل كشف لهم أن ثمة خطين يفصلان ويميزان بين الفاعلين السياسيين فى تونس. الخط الأول يفصل الأحزاب الكبيرة على المستوى الوطنى التى حققت أفضل نتائجها فى المناطق الحضرية من جانب، عن بقية المرشحين، خاصة سعيد والقروى، الذين حظوا بتأييد المناطق الأقل نموا فى البلاد، من جانب آخر. هذا الفصل معناه أن تعارضا قويا نشأ بين المركز، حيث ذهبت الأصوات للأحزاب الكبيرة، والتخوم التى لفظت مرشحى هذه الأحزاب بمن فيهم مرشح حزب حركة النهضة. الخط الثانى يفصل الأحزاب الحداثية، بمعنى الأحزاب غير حركة النهضة، عن المرشحين المناهضين لمنظومة التسيير السياسية. فى داخل المدن، مرشحو الأحزاب الحداثية سجلوا أفضل نتائجهم فى الأحياء الميسورة بينما حصل نبيل القروى على أصواته فى الأحياء الشعبية، وإن لم تكن بالضرورة الأكثر فقرا أو هامشية.
يبدو هذا الخط الفاصل الثانى وكأنما يعبر عن تعارض أكثر عمقا بين الطبقات المسيطرة من جانب، والطبقات الشعبية من جانب آخر، سواء كانت حضرية أو ريفية. كذلك فإنه فى خارج مدينة تونس وضواحيها، حققت الأحزاب الحداثية أفضل نتائجها فى الشمال الشرقى وفى الساحل، الأكثر تنمية، بينما اختفت تقريبا من الجنوب حيث كانت هيمنة المرشحين المناهضين للمنظومة شبه كاملة.
***
فى هذه المساحة المحدودة خمسة دروس عن التطور الديمقراطى يمكن الخروج بها من الدور الأول للانتخابات الرئاسية التونسية. أول الدروس يتعلق بتحليل بيانات الانتخابات. مجرد نشر نتائج الانتخابات ليس كافيا وهو يضيع على المشاركين فى الانتخابات وعلى متخذى القرار فى النظام السياسى فرصة ذهبية للتعرف على دقائق احتياجات الناس فى المناطق المختلفة للبلد المعنى. جمع البيانات عن العملية الانتخابية وتجهيزها وتحليلها ونشر نتائج هذا التحليل هو اغتنام لفرصة لا تعوض لصنع السياسات الفعالة والكفؤة والرشيدة. لحسن الحظ أنهم فى تونس متنبهون لذلك، بل هم يتطلعون إلى إجراء مسوح يكشفون بها ليس فقط عن القواعد الجغرافية والاجتماعية للأحزاب والمرشحين، وإنما كذلك عن أشكال وجود هؤلاء فى المناطق المختلفة والشبكات التى يستندون إليها.
الدرس الثانى هو أن الناخبين نابهون وأنهم يوجهون تحذيرات بليغة للفاعلين السياسيين بمشاركتهم أو بامتناعهم عن المشاركة فى الانتخابات. الهيئة الناخبة التونسية من سبعة ملايين، هوت مشاركتهم من 64 فى المائة فى ستة 2014 إلى 45 فى المائة هذا العام. الامتناع عن المشاركة موقف سياسى.
الدرس الثالث هو أنه ينبغى التحوط من المغالاة فى عداء أى فاعل سياسى، ففى نظر الكثير من المراقبين استفاد نبيل القروى مئات الآلاف من الأصوات من القبض عليه وإيداعه السجن قبل أسابيع قليلة من الانتخابات، إذ إن ذلك أسبغ عليه فى نظر الكثيرين شكل الضحية لسلطة جائرة.
الدرسان الأخيران ربما كانا أكثرها أهمية. الدرس الرابع هو أن الانتخابات الرئاسية التونسية كانت فرصة جديدة لتأكيد أنه ليست هناك أى حتمية لا لانتصار الإسلام السياسى فى أى انتخابات ولا لسيطرته على النظام السياسى فى أى بلد عربى طالما كانت الانتخابات تنافسية فعلا وكان النظام السياسى مفتوحا. على مدى عقود من الزمان أوهم أنصار الإسلام السياسى المواطنين فى البلدان العربية، وفى مصر بالذات قبل تونس وغيرها، أن الإسلام السياسى منتصر لا محالة، معتمدين فى ذلك على العاطفة الدينية للمواطنين وخالطين بين الإسلام من جانب، والإسلام السياسى، من جانب آخر، ومن بعد ذلك، موهمين أن الأخلاق والصلاح والدين واحد لا يتجزأ. الانتخابات فى تونس كشفت عن أن المواطنين فى البلاد العربية أكثر فطنة وأنهم يميزون بالسليقة وبالعقل بين ما هو سياسى وما هو دينى. لم يخرج مورو من السباق وحده بل خرج أيضا معبر آخر عن الإسلام السياسى هو الجبالى، وداعى إلى التحالف معه هو المرزوقى، ومتفهم لملاءمة التنسيق معه لأسباب سياسية هو الشاهد.
الدرس الخامس ينشأ بالذات عن الهزيمة القاسية التى لقنها الناخبون التونسيون للتيار العلمانى الليبرالى الوسطى الذى مثله رئيس الحكومة الشاهد ووزير دفاعه المستقيل الزبيدى. أضير هذا التيار بالآثار الاقتصادية للإرهاب الذى ضرب تونس. ولكنه دفع أيضا ثمن فهم للنظام الديمقراطى والانتخابات فيه على أنه تسابق من أجل الوصول للسلطة. هذا الفهم لا يقتصر على تونس، بل هو بالضرورة موجود فى بلدان عربية أخرى. السياسات التقليدية المعتادة لم تشف علة قبل الثورات وهى لا يمكن أن تعالجها بعدها. اكتساب السلطة هو لممارستها من أجل حل المشكلات التى تعانى منها الشعوب ولاتخاذ السياسات التى تحقق مصالحها. السياسات الاقتصادية أساسية فى هذا الصدد. السياسيون الليبراليون الوسطيون، ومعهم الاشتراكيون الديمقراطيون بل واليساريون، من واجبهم أن يحاجوا المؤسسات المالية الدولية والقوى الاقتصادية الكبرى حتى يهيئوا لسياساتهم الاقتصادية حيزا تتحرك فيه لتعمل بشكل تدريجى ومتصاعد على حل مشكلات الناس وعلى وضعهم على طريق التنمية والتقدم.
المرحلة الجارية من التطور الديمقراطى فى تونس ستتواصل بإجراء الانتخابات التشريعية فى 6 أكتوبر المقبل ثم تستكمل بعقد الدور الثانى للانتخابات الرئاسية. أغلب الظن أن هذه الانتخابات وتلك ستسفر عن نتائج معقدة. ولكن فلنمسك عن استباق الأحداث.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved