أواني الهيمالايا

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 21 سبتمبر 2019 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

تتوقف الثرثرة. تغلق عينيها لترى ما هو أعمق. على شاطئ البحر كان هذا الشاب النحيل يمارس طقوسه الغريبة على أجساد بعض المجهولين الذين أتوا تباعا. أرادت أن تخوض هي الأخرى التجربة، من باب حب الاستطلاع، لكن أيضا بسبب حالة الاستغراق والاسترخاء التي لمحتها على وجوه من سبقوها على هذا المقعد الخشبي الطويل. يضع أوانيه المتعددة الأحجام التي صنعت من مزيج بعض المعادن، ويضربها بعصاه الصغيرة التي تصدر صوتا خافتا لا يكاد يسمع من رواد الشاطئ، لكنه يحدث تأثيرا غريبا في الجسم. فجأة تسمع ترددات هذا الصوت الخافت تنتشر في سائر أنحاء الجسد وتتوزع. يتردد صداها بعمق داخل الجسم. تشعر بالذبذبات تدغدغ أعضاءها برفق، وهي مسترخية، كمن في عالم آخر... ربما أعلى جبال الهيمالايا من حيث جاءت هذه الطقوس وهي شكل من أشكال العلاج بالطاقة وإعادة توزيعها داخل الجسم لتحقيق الانسجام المطلوب.
يضع الشاب هذه الكؤوس التي تغني، كما يقولون، على البطن أو بالقرب من القلب أو إلى جوار الشخص، في أماكن معينة، فتساعد الذبذبات على التخلص من الطاقة السلبية المتراكمة وتوازن مراكز الطاقة في الجسم. التركيز يجعلك تشعر أن الصوت يذوب فينا، والعكس صحيح. تتشبع به الخلايا، تنقل ذبذباته المياه التي تكون حوالي 70% من أجسامنا.. تحفزها على الشفاء الذاتي والتطهر.
***
الأصوات التي تصدرها هذه الأواني المعدنية هادئة، عذبة، لا تحدث ضجيجا لكن ترددات تساعد على الاسترخاء والتأمل، وهي تعتمد نظرية أن كل شيء في الكون يرسل ذبذبات بترددات مختلفة، بدءا من أفكارنا ومشاعرنا وصولا إلى الطعام الذي نتناوله والأشياء المختلفة التي نستخدمها يوميا. ويقال إن مشاعر الحب والسعادة والفرح والرضا تبث ذبذبات عالية، بعكس مشاعر الخوف والكره والغضب والقلق. لذا من وقت لآخر فنحن بحاجة لشحن الطاقة، أو تبديل السلبي منها بالإيجابي بمجرد الاستدعاء، وهي الفكرة التي تقوم عليها الكثير من تدريبات التأمل التي قد تفيد في خضم ما نعيشه يوميا من ضغوطات وإجهاد ذهني.
الفلسفات القديمة مثل المصرية واليونانية التي كانت قاصرة على نخبة من الحكماء كانت تؤمن بمثل هذه الأفكار، ثم جاءت آراء بعض العلماء مثل أينشتاين، حول تكافؤ الكتلة والطاقة، لتشير أنها ليست خالية تماما من الصحة. وفي السنوات الأخيرة، استحضر البعض طرق علاجات قديمة تعتمد نهجا شموليا في التناول مفاده أن كل ما في الكون يؤثر فينا ونحن نؤثر فيه، وصارت بعض مدارس الطب البديل التقليدية موضة يلجأ إليها البعض طلبا في الوصول إلى نمط حياة مختلف، أقرب للطبيعة. حياة نستمع فيها جيدا لكل ما يحيطنا، نتوقف لقليل من الوقت عن الثرثرة الفارغة، لننصت لأصواتنا الداخلية كما لأصوات الكون من حولنا، نلتقط الذبذبات، ونبث أخرى أو نفرغها عن كاهلنا.
***
ووسط هذا الكم الهائل ممن يدعون ممارسة مثل هذه الطقوس والطرق العلاجية هناك بالطبع الكثير من الباطل والطالح، من لا يعرفون سوى القشور ويحاولون التظاهر بالعكس بهدف التجارة والتربح، لكن هناك أيضا من استغرقته مثل هذه الدراسات والتجارب وتعمق فيها... من نجح في استخدام ذبذبات الموسيقى لتخفيف آلامه حين أصابه مرض السرطان، من ذهب للعيش مع الكهنة في هضبة التبت فأخذ عنهم بعض أسرارهم، من قرر أن ينصت بالفعل للطبيعة من قلبه واقترب منها ومن الخالق... كل واحد حسب طريقته التي قد يستعصى علينا أحيانا فهمها بمعايير العصر الحديث.
يستكمل الشاب النحيل طقوسه على الشاطئ. يتغير الزبائن. لا يطلب منهم أجرا ثابتا. يترك لكل واحد فيهم أن يهبه ما يشاء، تبعا لمزاجه ومقدرته. يحرك الأواني الفارغة من موقع لآخر، فتنتشر الذبذبات في الجسم ويسترخي، وحينما يستيقظ الشخص لا يرى أمامه سوى البحر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved