الإمبراطورية العثمانية: بداية التراجع

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 21 سبتمبر 2019 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

كانت نهاية عصر السلطان سليمان القانونى بمثابة نقطة تحول فى تاريخ الإمبراطورية العثمانية، والتى بلغت أوج قوتها معه. رقعة الإمبراطورية تضاعفت فى خلال سنوات حكمه، كان العثمانيون يسيطرون على شرق البحر المتوسط وأجزاء من شماله وجنوبه، كانت منطقة وسط آسيا بإثرها تقع تحت سلطة السلطان العثمانى، كانت مناطق كبيرة من الجزيرة العربية والعراق والأراضى الفارسية بل وفى شمال إفريقيا وشرقها وحتى الهند تقبع إما تحت السيادة العثمانية مباشرة أو تدين لها بالولاء. ازدهرت الصناعة والتجارة والعلوم والفنون، كما كان الجهاز الإدارى المركزى فى إسطنبول (القسطنطينية فى ذلك الوقت) يتمتع بقدرات كبيرة على إدارة كل أرجاء الإمبراطورية وحتى أطرافها، كما كان الجيش العثمانى فى أوج قوته وكانت الإمبراطورية العثمانية هى القوى العظمى وبحق.
***
‫بعد وفاة سليمان بدأت هذه المظاهر فى التراجع التدريجى، وكانت أولى هذه العلامات هو بداية اهتزاز الجيش العثمانى وكانت محاولة السيطرة على جزيرة قبرص فى عام ١٥٧٠ هى بداية هذا الاهتزاز، فرغم نجاح الجيش العثمانى فى السيطرة على الجزيرة ودخول عاصمتها نيقوسيا. لكن أحد أهم القلاع العسكرية «قلعة فاماغوستا» بقيت عصية على سيطرة العثمانيين. لاحقا تراجع الأسطول العثمانى إلى خليج ليبانتو لكن جيوش الصليبيين لاحقا اشتبكت مع الأسطول العثمانى وأجبرته على الانسحاب! فى هذه المعركة دمرت أكثر من ٢٠٠ قطعة حربية عثمانية وبلغت وفيات وإصابات الجيشين ما يقارب الستين ألف!
‫لكن فى عام ١٥٧٣ تمكن العثمانيون من تنظيم أنفسهم وعادوا للسيطرة على قبرص فاضطرت جمهورية البندقية إلى توقيع معاهدة سلام مع العثمانيين أقرت بأحقيتهم فى السيطرة عليها.
‫صحيح أن الأمر انتهى بعودة العثمانيين للسيطرة على الجزيرة، لكن كانت هذه أولى إرهاصات التراجع فلأول مرة منذ قرون تعرف الإمبراطورية هزيمة بهذه الفداحة.
‫فى تلك الفترة أيضا استمر الكر والفر بين العثمانيين وبين الفرس لكن فى عام ١٥٨٣ حقق العثمانيون نصرا هاما على الفرس وأجبروا الأخيرين بعد سلسلة حروب استمرت لسنوات على توقيع معاهدة إسطنبول والتى مكنت العثمانيين من أجزاء واسعة من وسط آسيا وشمال وشرق الدولة الفارسية.
‫لكن يرصد المؤرخون أنه ورغم هذه السيطرة إلا أن الأتراك الذين سكنوا هذه المناطق التى وقعت تحت النفوذ العثمانى كانوا من الشيعة الذين لم يكن ولاؤهم الكامل إلا للشاه، كما رصد المؤرخون أيضا سوء معاملة الحكام العثمانيين للسكان المحليين مما ولّد نفورا من الوجود العثمانى والذى لاحقا استغله الشاه لصالحه وأخذ فى تقليب السكان ضد الإدارة العثمانية، كما أن شاه إيران فى ذلك الوقت «عباس الأول» قد أمّن طريق تجارته عن طريق روسيا والتى عقد معها ومع الإسبان اتفاقيات سرية للتآمر على العثمانيين وفعل الشىء نفسه مع الإنجليز.
‫استفاق العثمانيون تدريجيا بعد عقد تفاهمات مع الإنجليز والفرنسيين ضد الإسبان، وساهم فى تعضيد الوضع إصرار البندقية أن تبقى على الحياد، عادت استفاقة العثمانيين مع نهاية القرن السادس عشر لكن ومع بداية القرن السابع عشر بدأت الأمور تتعقد تدريجيا! بدأ العثمانيون فى خسارة الأراضى التى سيطرت عليها فى وسط آسيا ووسط وشرق أوروبا مما اضطر العثمانيين لتوقيع صلح مع مملكة هابسبورج (تتقاطع حاليا مع الأراضى النمساوية والمجرية) حيث قبل السلطان العثمانى بأن يصبح إمبراطور هابسبورج مساويا له وهو أمر لم يحدث منذ أكثر من ٨٠ عاما كما أقر العثمانيون سيادتهم على الأراضى التى سيطروا عليها مع نهاية القرن السادس عشر.
***
‫بحلول عام ١٦١٠ يمكن ملاحظة الأزمات المتتالية التى بدأت تضرب العثمانيين، فبالإضافة للضغوط الخارجية، بدأت الإمبراطورية العثمانية المعاناة والتدهور الداخلى، ويمكن ملاحظة هذه التراجعات على ستة أصعدة!
‫الصعيد الأول، هو صعيد السلطة العليا، فحتى وقت سليمان القانونى كان السلطان يتحكم فى كل أطراف نظامه السياسى وكان الوزير الأول هو بمثابة اليد التنفيذية للسلطان، كما أن ولاة المناطق المختلفة التى وقعت تحت السيادة العثمانية كانوا يدينون بالولاء التام له. لم يعد هذا هو الحال بعد القانونى، فالوزير الأول تزايدت مساحته وفى كثير من الأحيان على حساب سيادة السلطان، كما أن الولاة أصبحوا حكاما فعليين لا يأبهون كثيرا بتعليمات السلطان والذى انشغل بدوره بحروبه وعلاقاته الخارجية.
‫أما الصعيد الثانى فهو ترهل الجهاز الإدارى للدولة العثمانية والذى لم يتم تطويره منذ وفاة سليمان القانونى، فأصبحت الإدارة فى حالة تراجع وانتشرت الرشاوى والمحسوبيات، كما وقع الجهاز الإدارى فى الشرك الأكبر وهو الانعزال عن السكان المحليين مما ولّد الغضب فى أرجاء الدولة وأوقف عملية التنمية.
‫الصعيد الثالث يتمثل فى تراجع الاهتمام بالزراعة وتزايد الضرائب على المزارعين مما أدى إلى قلة الإنتاج وأثر ذلك بشدة على الميزانية العامة للدولة وهو بدوره ما ساهم فى تراجع مستويات المعيشة وأثّر بشكل مباشر على اقتصاد الدولة العثمانية.
‫ثم يأتى الصعيد الرابع والمتمثل فى الجيش العثمانى، حيث بدأت صناعة الأسلحة فى التراجع بفعل ضعف الميزانية المخصصة لذلك وبفعل وجود انشقاقات داخل الجيش تداخلت مع عوامل عصبية وطائفية أصرت على عقيدة الجيش واستعداده.
‫ثم يأتى الصعيد الخامس والمتمثل فى تزايد الثورات والانتفاضات الداخلية وعجز سلاطين الإمبراطورية العثمانية على التحكم فيها أو مواجهتها مما أثر على صلابة سيادة العثمانيين وحكمهم فى تلك المناطق.
‫ثم يأتى الصعيد السادس والأخير والمتمثل فى صلح ويستفاليا فى عام ١٦٤٨ والذى أنهى الحروب الدينية فى أوروبا وقلل من استراتيجية العثمانيين التقليدية فى استغلال تلك الخلافات الدينية.
‫قطعا لم يعنى ذلك انهيارا كليا فى قوة الخلافة ولا فى سيادتها ولا فى أهميتها حيث بقيت الإمبراطورية قوية عالميا وكان يعمل لها حسابا من كل القوى العالمية كما أن سلاطين مثل أحمد الأول (١٦٠٣ــ ١٦١٧) وإبراهيم الأول (١٦٤٠ــ ١٦٤٨) قد بذلوا قصارى جهدهم من أجل إصلاح الجيش والجهاز الإدارى، لكن التطورات المتلاحقة التى ترتبت على الصلح الأوروبى فى ويستفاليا غيرت كثيرا من الأمور فى أوروبا وجعلتها أكثر استقرارا وأمنا وهو ما مثّل تحديا إضافيا على الإمبراطورية العثمانية أناقشه فى المقالات القادمة.
أستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved