«وش فى وش».. فيلم يضعنا فى قلب مأزق إنسانى بشغف ومتعة
خالد محمود
آخر تحديث:
الخميس 21 سبتمبر 2023 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
* المخرج وليد الحلفاوى وضعنا فى مساحة تنفس ضيقة وقربنا من سينما اشتقنا إليها
* لغة الحوار واقعية ومؤثرة دون لغو أو ثرثرة وتنقلنا إلى عوالم الشخوص بسلاسة وإيقاعٍ سريع
* الأداء كشف عن ممثلين يملكون قدرات هائلة حققت رغبة مخرجهم من طرحه للأزمة
* الصورة السينمائية أخذت بيدك لتضعك كجزء من الحدث أو كشاهد عيان على أثره
قليلة هى السينما التى تعكس بحق أوضاع مجتمعاتها، وتنصب لها فخا فنيا ليكون بمثابة طلقة يقظة لبشر، وإما نظرة اتهام صريحة لواقع اجتماعى واقتصادى، أو مرآة تكشف المستور لفوارق ثقافية رغم ما يحيطها من رقابة ذاتية لا حدود لها، وإما صورة حلم يجعل حامله يتخطى تقاليد أصولية مميتة.
قبل أن أشاهد فيلم «وش فى وش»، ومن واقع المشهد العام، كان لدى شكوك فى أن ينتفض أحد مخرجينا الشباب «وليد الحلفاوى» ليقدم فيلما حقيقيا مدهشا بعالمه لتقترب السينما المصرية كثيرا من سينما عالمية أعشقها، تلك التى تضعنا فى قلب المأزق الإنسانى بإحساس كامل من الشغف والمتعة.
استطاع أن يطرح قصته الملتهبة والمتشابكة مع واقع معاصر وحالة آسرة تلقى بظلالها على المجتمع ككل. جاء المخرج ليلخص المشهد المصرى فى أشخاص هم نتاج نزاع واحد وهو الكفاح من أجل إثبات ذواتهم، فى مقدمة هؤلاء الأشخاص يأتى شريف «محمد ممدوح» وداليا «أمينة خليل»، وهما زوجان ينتميان للطبقة الوسطى، نراهما فى المشهد الأول داخل شقتهما يتشاجران إثر خلاف بسيط بخصوص اقتصاديات الحياة ومدى الانتقال لوضع آخر عبر شقة زوجية جديدة رغم أن كلاهما أحب الآخر وأنجبا طفلا لكن يبدو أن تشابك مشاكل الواقع قد ألقت بظلالها على أيامهما وحياتهما الصغيرة.. لم يعد أى منهما يشعر براحة فى ممارسة طقوس أحلامه بشكل طبيعى، فـ«داليا» الزوجة تريد أن تعيش بحرية ورغد وتعمل كما تتمنى، بينما نرى الزوج لا يعانى فى ظل رفاهية الصرف وهو الموقف الذى فجر الأزمة بينهما.
ويصل بنا المخرج إلى ذروة الأزمة الإنسانية عبر حوار تتوارى فيه المشاعر بين لحظة وأخرى، وإيقاع لاهث أيضا مثل ساعات اليوم، والحقيقة أنك تشعر بأن «شريف وداليا» يجلسان فى حجرة منزلك ويتجولان من حولك، فهما يتحدثان بلغة أقرب ما تكون للغة واقعية ومؤثرة دون لغو أو ثرثرة أو حتى فذلكة.. أيضا الصورة السينمائية لـ «مروان صابر» أخذت بيدك لتضعك كجزء من الحدث أو كشاهد عيان على أثره.
فى الشق الأبرز من الحدوتة وبعد أن وصل الخلاف ذروته حين يلجأ كل طرف إلى استدعاء أهله وعزوته من الأصدقاء كى يناصروه ضد الطرف الآخر؛ حيث تأتى أسرة داليا، والدها «سامى مغاورى» وأمها «أنوشكا» وأخوها سليم «أحمد خالد صالح»، وصديقتها سلمى «أسماء جلال» والسائق «محمود الليثى» ــ كحول ــ ويأتى من طرف شريف.. أبوه «بيومى فؤاد» وأمه «سلوى محمد على»، ومن أصدقائه وائل «محمد شاهين» ومجدى «خالد كمال»، بالإضافة إلى الشغالة «دنيا سامى» ويشتبك الجميع فى تصاعد درامى من أجل بنود انفصال الزوجين والمغالاة فى كل شىء، لتنمو الفكرة الأساسية البسيطة داخل وجدان المشاهد وهى «مدى تأثير تدخلات الأسرة والمجتمع سلبيا على العلاقة بين الزوجين فى رحلتهما مع مطالب الحياة وزلزلة استقرارها»، حيث يقع ما لم يكن فى الحسبان حين ينكسر قفل باب الشقة بشكلٍ مفاجئ فيجد الضيوف المتناحرون أنفسهم مضطرين لقضاء الليلة معا فى الشقة نفسها رغم احتدام الصراعات وتصدع الثقة بين الجميع.
كان هذا الانهيار نموذجيا! حيث جاءت الحبكة والأداء فى صورة أكثر من رائعة وكشف عن ممثلين يملكون قدرات هائلة، حققوا رغبة مخرجهم من طرحه للأزمة، فنحن فى شقة الزوجية المحكمة بمساحتها.. الزوج الجانى «كما يدعى أهل الزوجة» يجلس مدافعا عن نفسه بأنه لم يكن يقصد ذلك الخلاف، بينما إيقاع الزوجة يتأرجح بين هدوء وسخونة وانفعال متأثرة بضغط أمها، وفى داخلهما رجاء بتجاوز الموقف لمواصلة الحياة مع الحبيب.
وطوال 120 دقيقة تظل مشاعرنا وأفكارنا خاضعة لتطورات الأحداث السريعة التى لم نشعر بها رغم التصوير داخل شقة بفضل مونتاج «هيثم فهيم»، الواعى الذى يستحق كثيرا من الثناء حيث ينتمى الفيلم لدراما المكان الواحد والليلة الواحدة. وخلال القصة يتنقل فيها وجداننا من شخص لآخر، بل تعاطفنا مع الجميع، فهم جزء من مجتمع يحاول عقلاؤه إنقاذه من التصدع رغم وجود شرخ فى جدار علاقة الأفراد بعضها البعض، وهو الشرخ الذى داوته فيما بعد الظروف والأحداث حيث عادت المياه إلى مجاريها بين بعض الأطراف التى منحت الفرصة لأن تعلو قيمة التسامح.
تسيد السيناريو، الذى شارك فى كتابته المخرج مع أحمد أنور وأمير علوى، بحبكته الذكية وبنائه الواعى، جماليات العمل بحالة التوازن بين الدراما وروح الكوميديا التى رسمتها تلك الحالة من التوافق والتوفيق والإجادة فى أداء شخصياته.
أبدع المخرج فى جعل المساحة المتاحة للتنفس ضيقة، حتى يستنشق المُشاهد الأزمة ويعرف أنها تشكل جزءا من واقع لم يكن ببعيد عنه، وربما تجىء الحبكة السينمائية المؤثرة والمحرضة على التفكير منذ البداية للنهاية بموسيقاها وزوايا تصويرها القريبة ومهارة صياغة الحوار الذكى المتدفق بين الشخوص لينقلنا إلى عوالمهم بسلاسة وبإيقاعٍ سريع، فيما نجح فى رسم شخوصه بدقة رغم تعددها، وجعل لكلٍ منها دور فاعِل فى الأحداث فأصبح لكل ممثل، مساحة جيدة تدفع الدراما قُدما على عكس الشائع مؤخرا من أفلام، يحرص منتجوها على حشد باقة كبيرة من النجوم دون داعٍ درامى، فقط لأغراض ترويجية وتجارية، وأرى أن محمد ممدوح قدم أداء مدهشا بتلقائيته وانفعالاته وليدة مشاعر اللحظة. أيضا كان أداء غالبية الأدوار المميزة طازجا ذا بريق خاص كمحمد شاهين فى دور الصديق الوفى والمغرم بصديقة الزوجة، ليقدم شاهين شخصية مميزة متماسكة، وخالد كمال فى دور الصديق الشهم، والذى يمثل نقطة مفصلية فى القلب الأبيض رغم ملامح تصرفاته التى أساءت فهم التعامل معه، ولا ننسى مشاهده مع والد شريف الذى أعاد اكتشافه كإنسان طيب المشاعر، وطلب منه أن يكون على تواصل. المتهور أحمد خالد صالح، فى دور شقيق الزوجة الذى يدعى الشهامة، وفى محطة أخرى الثنائى الموهوب محمود الليثى فى شخصية «كحول»، ودنيا سامى التى تعد اكتشاف اللحظات الأخيرة كخادمة تعانى من انفصام مجتمعى وكاشفة لعوار الطبقة التى تخدمها، كما أنها شخصية لديها أشياء غريبة وعقد نفسية، تتمنى أن تنال حريتها فى الحياة وتحب محمد ممدوح، وفى منطقة أخرى نجد تألق آباء الزوج والزوجة، بيومى فؤاد، سلوى محمد، سامى مغاورى وأنوشكا فى إثارة الخلاف الطبقى والثقافى، بالإضافة لظهور مميز بمشهد لمصطفى غريب فى دور الحداد.