النموذج اللبنانى.. تعميم وتشويه

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الخميس 21 أكتوبر 2010 - 10:22 ص بتوقيت القاهرة

 يصدم قارئ الصحف المصرية بمطالعته لمصطلح «الطائفية» مستخدما، وبشكل متزايد، فى مناقشة حالة العلاقات بين المواطنين من المسلمين والأقباط فى مصر. وليس للمصطلح، ولا للمفهوم الذى يدل عليه، اى أصل فى التاريخ الاجتماعى والسياسى لمصر الحديثة والمعاصرة، سواء فى المواثيق الدستورية والسياسية، أو فى كتابات المؤرخين، والباحثين فى العلوم الاجتماعية، والصحفيين.

المصطلح مستورد من لبنان، حيث يستخدم، ويعكس الترتيبات السياسية الموجودة فيها منذ نشأة لبنان الكبرى فى مطلع العشرينيات من القرن الماضى.

ولقد سبق العراق مصر فى التشبه بلبنان، فعقب الغزو الأمريكى له فى سنة 2003، نقل الحاكم العسكرى الأمريكى بول بريمر نظام المحاصصة الطائفية، أى توزيع الحصص فى النظام السياسى على الطوائف والمجموعات العرقية المختلفة، من لبنان إلى العراق.

حدث النقل وكأنما النظام الطائفى اللبنانى مثال يحتذى، وهو النظام الذى جهدت قوى لبنانية عديدة للخروج منه دون أن تقوى على ذلك، وكانت المحاصصة السياسية الأساس لتقسيم المجتمع العراقى إلى طوائف متجاورة سرعان ما تصارعت وتقاتلت، فعزز هذا التصارع والتقاتل بدورهما من الطائفية السياسية، دورة جهنمية كان العراق قد ابتعد عنها.

يقول قائلون إن التمايز الطائفى كان موجودا فى العراق قبل سنة 2003، وإنه كان مسكوتا عنه لا غير. ربما كان ذلك صحيحا، ولكنه تشخيص ينطبق على جميع مجتمعات الدنيا. التمايز على أساس طائفى، وعرقى، وإقليمى، ولغوى، ناهيك عن الطبقى، موجود فى الدول المتقدمة الديمقراطية ذاتها، فهو موجود فى فرنسا، والولايات المتحدة، وألمانيا، والنمسا، وبريطانيا، وبلجيكا، وإسبانيا وغيرها.

إلا أن هذه الدول أنشأت، بحظوظ متفارقة من التوفيق، نظما سياسية معاصرة تجمع بين المجموعات الطائفية والعرقية واللغوية المختلفة وتعمل على تذويب خطوط التمايز بينها.

ما حدث فى العراق لم يكن اعتباطا. هو نتيجة لفعل إذا ما طبق فى اعتى المجتمعات الديمقراطية والعلمانية المركزية، وهى فرنسا، مثلا، فإنه لن يلبث فى غضون سنوات أن يؤتى نتيجة مشابهة.

التطبيق فى فرنسا يمكن أن يعيد الدماء إلى خطوط التمايز، فيزدهر لونها وتبرز لتميز الكاثوليك عن البروتستانت، والمذبحة التى تعرض لها هؤلاء فى القرن السادس عشر وهجرة أغلبهم من جرائها إلى هولندا وجنوب أفريقيا، موجودتان فى الذاكرة الجمعية الفرنسية.

التطبيق فى فرنسا من شأنه أن يزيد التمايز بين سكان جزيرة كورسيكا وفرنسا القارية، وأن يحيى التعبير السياسى والاجتماعى المتفرد للبريتون فى الشمال الغربى، والكتالان فى الجنوب الشرقى، وللالزاس فى الشمال الشرقى، للباسك فى الجنوب الغربى.

ليس حجة مقبولة القول بوجود التمايز أصلا فالتمايز موجود فى كل المجتمعات، وهو شىء محمود، ولكن من وظائف النظام السياسى فى الدولة الوطنية ضبطه وتوظيفه لخدمة التعددية المثرية على أساس المواطنة الفردية التى لا تتوسط فيها المجموعة الدينية أو العرقية أو اللغوية أو اى مؤسسة، تسبغ عليها صفة تمثيلية، بين النظام السياسى والمواطن، وإنما تتوسط بينهما الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدنى، والأنظمة الفكرية، والنظريات السياسية والاجتماعية.

بعد العراق، الدولة العربية الكبيرة، اقتصادا وسكانا ومجتمعا وسياسة، ها هو الاستيراد الطائفى من لبنان يصل إلى مصر، الدولة العربية الأكبر.

من حسن الحظ أن الطائفية لم تصل إلى مقاعد النظام السياسى، وصحيح من جانب آخر أن التمايز الدينى قد أخذ فى التصاعد منذ السبعينيات من القرن الماضى، ولكن الأخذ بالمصطلحات واعتيادها يضفى صفة طبيعية عليها، بل والانكى، يمكن أن يسبغ عليها شرعية لدى بعضهم. مصر، الدولة الوطنية الأولى التى نشأت فى المجتمعات العربية تقوَّض من أُسسها!

غير أن الأدهى من الاستيراد من النظام السياسى الطائفى اللبنانى هو تشويه ما يستورد. الطوائف فى لبنان تتصارع وتتعاون وتتعايش فى علاقة جدلية. وهى تتصارع على الموقع فى النظام السياسى وعلى المصالح والنفوذ، غير أن الطوائف اللبنانية لا تتصارع أبدا فى شأن العقائد.
فلا خطيب جمعة يهاجم معتقدات المسيحيين، ولا واعظ أحد ينال من إيمان المسلمين، خطباء، السنة والشيعة لا يتبادلون التهجم على القليل الذى يميز بينهم، ولا وعاظ الكنائس العديدة ينالون من خصائص الإيمان لدى كل منها.

الشيء البديهى هو أن أتباع كل دين، وكل طائفة، وكل مذهب، يعتقدون بصحة ما يؤمنون به، وبخطأ ما يؤمن به الآخرون. الكل يقبل بهذه القاعدة ويسير عليها، حتى وإن لم يدركها، ويمارس شعائره، وينحصر الصراع فى المجال السياسى.

أما فى مصر، فقد امتد الصراع إلى المعتقد الدينى، بات التهجم على المعتقدات شيئا معتادا، وهو تهجم يولد المرارة والعداوة، ويرسخ الانقسام على أساس دينى. التهجم على المعتقدات عبث فهو لن يؤدى إلى تحول جماعى من دين إلى دين، فضلا عن أن المعتقدات مسألة إيمان بالقلب والضمير.
وفى لبنان، فى خضم الحرب الأهلية التى استمرت لأكثر من خمسة عشرة عاما، ثم بعدها، لم يحدث مطلقا هجوم على سكان من اى طائفة أو مذهب على أيدى فاعلين من غيرها من طوائف أو مذاهب.

مورس العنف بين المجموعات السياسية والمسلحة التى ادعت تمثيل هذه الطائفة أو تلك. غير أن لبنان لم يشهد أبدا تفجيرات بين الآلاف من زوار مقام دينى، أو القاطنين والمارة فى أقسام من مدينة كما حدث فى العراق فى السنوات الأخيرة، كما أنه لم يعرف المواجهات الدامية وجرائم القتل الجماعى التى خبرتها قرى فى صعيد مصر.

تقديم خط التمايز الدينى، والنفخ فيه، وإبرازه، يقوض الدولة الوطنية فى مصر، ويهدد التعايش الاجتماعى وآمال التنمية فيها، فى جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، وفى إطار المنطقة العربية، الإقليم الجغرافى الذى تقع فيه مصر والعراق ولبنان وغيرها. تقديم التمايز الدينى وتقويض الدولة الوطنية يضفيان الشرعية على إسرائيل، الدولة اليهودية منذ نشأت سنة 1948، والأخطر من ذلك، على إسرائيل كدولة لليهود وبلدهم، كما يراد لها فى الوقت الحالى.

ليس صلاح المجتمع المصرى إلا فى التمسك بالدولة الوطنية وتعزيز مقوماتها، ومناقشة كل أشكال التمايز وتوظيفها لإثراء الحياة الوطنية المشتركة، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا فى إطار مناقشات للأنظمة الفكرية تبرز تمايزات أخرى تعالجها، فتصبح الوطنية بذلك شكلا واحدا من أشكال التمايز، لا شك فى أهميته وقيمته، ولكنه تمايز واحد من تمايزات، فاكتسب طابعا نسبيا هو الشىء الطبيعى فى الدولة الوطنية.

إن التعدد الدينى والعرقى واللغوى فى منطقتنا هو شرف لها أن تزهو به على مناطق العالم المتقدمة ذاتها التى أرغم سكانها تاريخيا على ألا يعرفوا إلا دينا واحدا، فإن عرفوا غيره، قامت ضد الأقليات فيه محاكم التفتيش وصنوف الاضطهاد والمذابح، كما حدث لليهود فى شرق أوروبا.

 
ليس النظام السياسى اللبنانى مثلا يحتذى غير أن تشويهه أنكى وأشد وقعا.
وليس النظام السياسى مجرد هياكل وآليات لبناتها، سواء كانت هذه الآليات صحية أو فاسدة، وإنما هى أفكار ورؤى وأنظمة فكرية ونظريات تناقش وتسهم فى الإبقاء على النظام السياسى، وازدهاره، وتطويره من أجل تلبية حاجات المواطنين ورقيهم.

ليت الجهود تتوحد من أجل إرساء مثل هذا النظام فى مصر كما فى العراق ولبنان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved