حوار حول الصندوق السيادى المصرى!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الأحد 21 أكتوبر 2018 - 10:55 م بتوقيت القاهرة

بينما نُتابع معا التصريحات الحكومية المتعاقبة حول تدشين أول صندوق سيادى مصرى، قُلت لمُحدثى إن مشكلات الاقتصاد المصرى تحتاج لمثل هذه النوعية المبتكرة من الحلول، إذا روعيت فيها الأسس التنموية السليمة، وإذا ضمنت الحكومة تحقيق معايير الكفاءة فى تطبيقها. واستمرارا للحوار، قلت له إننا لو ألقينا نظرة إجمالية على الاقتصاد المصرى فى وضعه الراهن، لوجدنا أنه فى أمس الحاجة لدفعة استثمارية قوية فى قطاعات الإنتاج المختلفة، وخصوصا فى قطاع الصناعة التحويلية؛ كى يستعيد بها توازنه المفقود، وكى يتمكن من الخروج من «دائرة التضخم» الخبيثة. حينها أخذ صديقى طرف الحوار، وبدأ فى طرح عدد من الأسئلة المهمة حول هذا الموضوع الجديد على مسامعه، كى يفهم الأبعاد الكاملة له. وفى الفقرات القادمة، أُلخص أبرز ما دار فى هذا الحوار الاقتصادى.
****
ابتدأ مُحدثى أسئلته قائلا: ماذا يعنى صندوق الثروة السيادى فى المنطق الاقتصادى؟
قلت له: عندما تتكون لدى أى حكومة فوائض مالية، فهى بطبيعة الحال، لا تتركها فى صورة سائلة وغير مستغلة. فقواعد الرشد الاقتصادى تحتم عليها استغلال هذه الفوائض فى أنشطة اقتصادية تدر عوائد مرتفعة. وعندما تتجمع هذه الفوائض من مصادر مختلفة، فإن قواعد الرشد الاستثمارى تقتضى توحيد الإدارة الاستثمارية لهذه الفوائض، وجعلها تحت سيطرة مباشرة من الحكومة وأجهزتها الاستثمارية؛ وهو ما يخلق الحاجة لإنشاء مثل هذه الصناديق. ولكى تصبح الصورة أكثر وضوحا فى ذهنك، دعنى أَقُلْ إنه فى التجربة الدولية، ارتبط ظهور مثل هذه الصناديق بفوائض النقد الأجنبى التى تحققت من أنشطة التصدير، سواء فى موازنات الدول الصناعية المتقدمة، أو فى موازنات الدول المصدرة للمواد الخام (موازنات الدول النفطية أوضح مثال).
قال مُحدثى: إذا كان الوضع كذلك، فما هو الأساس الاقتصادى الذى بُنيت عليه مثل هذه الصناديق؟
قلت: إن التجربة الدولية قد حددت هذا الأساس بشكل واضح لا لبس فيه. فالدول التى تكونت لديها الفوائض المالية، اعتمدت على هذه الصناديق فى التصدى لمشكلة كامنة فى بنيانها الاقتصادى. ففى حالة الدول المتقدمة، وبسبب تراجع قدرة أسواقها الداخلية على استيعاب مزيد من الاستثمارات، لجأت حكوماتها لاستخدام هذه الصناديق فى تصدير الفوائض المالية فى الأسواق الخارجية، واستغلالها بشكل يحافظ على أصولها المالية من التآكل بفعل التضخم. أما فى حالة الدول المصدرة للمواد الخام، وبالإضافة لضعف الطاقة الاستيعابية لاقتصاداتها الضيقة، وحاجتها للاستثمار فى الأسواق الخارجية، فلقد كان الأساس الاقتصادى وراء تدشين هذه الصناديق، نابعا من وعيها بنضوب ما تمتلكه من مواد خام، ومن سعيها للحفاظ على حقوق الأجيال القادمة فى هذه الموارد الاقتصادية. ولذلك، فقد ألقت على عاتق هذه الصناديق مسئولية استدامة الدخل الوطنى، حال نضوب ما تملكه من هذه المواد غير المتجددة.
قال مُحدثى متعجبا: مادام ضعف القدرة الاستيعابية للاقتصاد، والحاجة لاستدامة الدخل الوطنى من أرصدة المواد الخام، هما الأساسين الرئيسيين لقيام الصناديق السيادية فى التجربة الدولية؛ فكيف ترى لجوء الحكومة المصرية لتدشين صندوق استثمارى خاص بها، فى ظل زيادة الطاقة الاستيعابية للاقتصاد المصرى، وأنه لا يمتلك فوائض نقد أجنبى متأتية من تصدير المواد الخام؟!
قلت له: مبدئيا، أشاركك هذا التعجب. فمن الثابت أن الاقتصاد المصرى، بصورته الراهنة، يتمتع بطاقة استيعابية كبيرة. فحاجته الماسة لتحفيز الاستثمار المحلى على التوسع، ولتشجيع الاستثمار الأجنبى على القدوم والتوطن (بما فيها استثمارات الصناديق السيادية الدولية)، هى مما يسير به الركبان. كما أن الاقتصاد المصرى، فى ذات الوقت، لا يمتلك ترف «الفوائض الدولارية»، ليدشن بها صندوق استثمار سياديا، ليستثمر هذه الفوائض فى الأسواق الدولية. وبذلك، تنتفى الأسس الموضوعية لحاجته لمثل هذه الصناديق. لكنى سارعته بالقول، إننى أمتلك تفسيرا آخر يمكنه أن يزيل مسببات العجب من حوارنا. فلو أنك قارنت بين اتجاه الحكومة لتدشين هذا الصندوق، وبين توجهها لطرح جزء من أسهم شركات القطاع العام فى سوق الأوراق المالية، يمكنك أن تستنج السبب الرئيسى لتدشين هذا الصندوق.
ازدادت ملامح العجب على وجه مُحدثى، وقال: هل ترى إذن ثمة علاقة بين الصندوق السيادى المزمع تأسيسه، وبين اتجاه الحكومة للخصخصة؟!
بكل وضوح، أجبته: نعم هناك علاقة وطيدة بين هذين الاتجاهين. فالحكومة تحاول أن توفق بين اشتراطات برنامج صندوق النقد الدولى، وما تتضمنه من الإلحاح على تخلى الحكومة ــ أى حكومة ــ عما تمتلكه من أصول إنتاجية، وبين اعتبارات الرشد الاقتصادى فى إدارة العوائد المتوقعة لهذه الخصخصة. فهى تعلم أن هذه العوائد ليست من النوعية المتجددة. وعلى كل حال، فعندما تبدأ عملية طرح أسهم الشركات العامة فى سوق الأوراق المالية المصرى، فمن المتوقع أن يذهب جزء من هذه الأسهم للمشترين الأجانب فى السوق، وخصوصا أن النية الحكومية معقودة على بيع جزء من الشركات الرابحة، والتى تعمل فى قطاعات استراتيجية جاذبة للمشترى الأجنبى. وبتوافر «سيولة دولارية» للحكومة من نتاج هذا البيع، يصبح من الممكن تمويل رأس مال الصندوق السيادى. ولما كانت الحكومة تعلم أكثر من غيرها، أن تخليها عن حصة من ملكيتها لأسهم الشركات الرابحة، يعنى، فقدانها، فى ذات الوقت، وبنفس الحصة، لجزء من إيراداتها العامة الآتية من الأرباح السنوية لهذه الشركات؛ فإن هذا الصندوق ــ فى نظر الحكومة ــ سيكون بمثابة «المعوض الاقتصادى» عن هذا الفقدان.
***
أومأ محدثى برأسه، وقال: الآن فهمت سبب التزامن بين الدعاية المصاحبة للصندوق السيادى المصرى، وبين الإعلان عن نية الحكومة للخصخصة الجزئية لبعض أصولها الإنتاجية. واستمر فى الحوار، قائلا: لكن تحليلك هذا يفسر جزءا واحدا من الصورة، وتحديدا مصدر تمويل رأسمال الصندوق؛ فهل يمكن أن تتوقع أوجه الاستثمار الخاصة بهذا الصندوق؟
قلت له: من منظور تنموى، وعلى الرغم من تراكم الديون الخارجية على كاهلها، فإننى لا أعتقد أن الحكومة تخطط لأن يتولى الصندوق مهمة خدمة هذه الديون، ويستخدم رأسماله فى سداد الأقساط والفوائد المستحقة عليها. ففى هذه الحالة، سيتآكل رأسمال الصندوق سريعا، ولن يقدر على الصمود والاستمرار، وفوق ذلك، لن يستقيم نعته بالصندوق السيادى من الأساس. وبالتالى، فما دام قد سُمى بالصندوق السيادى، فإن نشاطه الأساسى سيكون تمويل عمليات الاستثمار الحكومى.
قلت كذلك: ومن منظور اقتصادى بحت، أستبعد تماما أن يكون من ضمن الخطة الاستثمارية الموضوعة لهذا الصندوق، التوجه للاستثمار الخارجى. إذ كيف يكون الاقتصاد المصرى فى أشد الحاجة لجذب الاستثمار الأجنبى، لسد الفجوة العميقة فى موازنة الصرف الأجنبى، ثم ــ فى ذات الوقت ــ تُضحى الحكومة ببعض الإمكانات الاقتصادية القادرة على سد هذه الفجوة، وتصدر هذه الفوائض للأسواق المالية الخارجية، أملا فى عوائد متواضعة على هذا الاستثمار الخارجى!
قال محدثى: هل أفهم من رأيك أن الصندوق السيادى المزمع تأسيسه، سيدير محفظته المالية فى سوق رأس المال الداخلى؟
قلت: أمام إدارة الصندوق طريقان استثماريان لا ثالث لهما. فإما أن تستخدم كامل رأسمال الصندوق فى تأسيس مشروعات استثمارية جديدة، فى قطاعات الاقتصاد المصرى المتنوعة؛ وإما أن توزع استثمارات الصندوق بين تأسيس مشروعات جديدة، وبين تكوين وإدارة محفظة استثمارية من أسهم وسندات الشركات القائمة والمتداولة فى سوق الأوراق المالية. وبطبيعة الحال، لكل طريق منهما مزاياه وعيوبه، لكن المقام لا يتسع لذكرها.
قال محدثى، وقد عادت علامات التعجب على وجهه: كيف تقول أن رأسمال الصندوق السيادى سيُبنى من حصيلة بيع حصة من الشركات الحكومية فى سوق الأوراق المالية، ثم تدعى أن الحكومة ستعيد تدوير جزء من أموال هذا الصندوق فى السوق نفسها، عبر شرائه للأسهم والسندات المتداولة فيه؟!
فأسرعت أقول: أنا فقط أُعدد لك البدائل الاستثمارية المتاحة أمام هذا الصندوق. وإلا، فإننى أتحفظ على هذا البديل الاستثمارى. وبمنطق آخر، وإذا كنت أرى ثمة جدوى اقتصادية لتوجيه جزء من الاستثمارات المتوقعة للصندوق فى المشروعات الجديدة، فإننى لا أتوقع أن تحدث طفرة تنموية فى سوق الأوراق المالية المصرية، باعتبارها استجابة لدخول هذا الصندوق بوصفه لاعبا أساسيا فيه. فمن ناحية، سنكون إزاء عملية إحلال بين مكونات المحفظة الاستثمارية الحالية للحكومة. فبدلا من أن تكون مالكة لأسهم شركات القطاع العام القائمة، ستتملك جزءا من أسهم شركات القطاع الخاص المتداولة، ولن يترتب على ذلك أى إضافة جديدة للطاقات الإنتاجية الوطنية. ومن ناحية ثانية، فإن دخول هذا الصندوق السيادى مضاربا فى سوق الأوراق المالية، سيمثل مزاحمة حكومية واضحة لصناديق الاستثمار الخاصة ولباقى المضاربين، وبما يرفع من درجة مخاطر الربحية، كونها أقل خبرة فى إدارة هذا النشاط.
قال محدثى: أخبرنى إذن عن رؤيتك الاقتصادية لاستراتيجية الاستثمار المثلى لهذا الصندوق.
قلت: الآن أدخل فى صميم القضية. لأن الأمر عندى أكبر من مجرد تدشين صندوق سيادى، يتشابه فى نشاطه ــ بطريقة أو بأخرى ــ مع بنك الاستثمار القومى القائم بالفعل. فلئن كنت أرى ضرورة البحث عن حلول مبتكرة للتصدى لأزمة الاقتصاد المصرى الراهنة، فلا يعنى ذلك أننى أرى جدوى تنموية للتخلى، الجزئى أو الكلى، عن الأصول الإنتاجية الوطنية، بهدف تمويل رأسمال الصندوق السيادى. ومادمنا قد اتفقنا على أن الهدف من وراء بيع هذه الأصول، ليس سداد المستحق على الديون الخارجية لمصر، كما يتخوف البعض؛ فلماذا إذن نصر على بيع حصة من ملكية هذه الأصول الرابحة، لنعيد، بحصيلتها، بناء طاقات إنتاجية جديدة، أو حتى نشترى حصة من الطاقات القائمة بالفعل؟! أوليس من الأولى أن يكون مصدر تمويل الصندوق السيادى من المدخرات الحقيقية للمصريين، عبر دعوتهم للاكتتاب المباشر فى رأسمال هذا الصندوق، بعد اقناعهم، بكل وسائل الدعاية الجادة والصادقة، بالمنافع العديدة لهذا النوع من الاكتتاب الوطنى؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved