النبوة المحمدية أوائل النبوات

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 21 أكتوبر 2020 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

يشير الأستاذ العقاد إلى أنه من قديم الزمان رغب الناس فى العلم بالغيب واستطلاع المجهول، وفقا لعلامات كثيرة كزجر الطير والتفاؤل والتشاؤم بعلامات أو بكلام، بيد أن الرغبة فى استطلاع الغيب ومواجهة المجهول لم تكن كلها من هذا القبيل.
ومن قديم الزمن أيضا وجد الكاهن «المختص» ووجد «الرائى» الملهم المزعوم أن الله يختاره للنطق بلسانه والجهر بوعده ووعيده، ومع انتحال الرائين حالة الوجد أو الانجذاب أو الصرع، كان الكهان هم الموكل إليهم التفسير وحل الرموز، وكانوا يسمون الصرع بالمرض الإلهى.
ولكن الفرق بين الرائى والكاهن لم يبق ملحوظا فى الأزمنة المتأخرة كما كان ملحوظا فى الأزمنة الغابرة، وجعل العملان يصطدمان كثيرا بعد ارتقاء الديانة.
ووجدت الكهانة والرؤية بين العبرانيين من أقدم عصورهم كما وجدت فى سائر الأمم، ولم يسموا الرائى عندهم باسم النبى إلا بعد اتصالهم بالعرب فى شمال الجزيرة، لأن اللغة العربية غنية جدا بكلمات العرافة والعيافة والكهانة وما إليها.
النبوة والجنون
عرف الأقدمون من العرب والعبرانيين كلمة النبوة قبل بعثة موسى عليه السلام، ولكنها 
لم ترتفع بينهم إلى مكانتها الجليلة التى نعرفها اليوم دفعة واحدة، وظلوا دهرا طويلا يخلطون بينها وبين كل علاقة بالغيب، وخلطوا بينها وبين الجنون، كما خلطوا بينها وبين السحر والكهانة والتنجيم والشعر، وأضعف من شأن النبوة لدى بنى إسرائيل خاصة أن الأنبياء بينهم كثروا وتعددت نبوءاتهم، وأحيانا فى الوقت الواحد، فتناقصوا وأقر بعضهم ما ينهى عنه آخرون، فصاروا عندهم فريقين يتشابهون فى المظهر ويختلفون فى الرأى والصدق، مع تعذر الفرز بين الصدق والكذب، وغلبت عندهم عقيدة شائعة بذهول النبى وغيابه عن الوعى فى جميع أيامه أو فى أيام الوجد.
ويؤخذ من سفر صموئيل الأول أن المتنبئين كانوا يظهرون جماعات جماعات، وجرى الحديث فى ذات السفر عن أن الأنبياء يأتون «زمرة».
وعلى ما كان يعتريهم من حيرة من تعدد النبوءات، لم يكن بهم غنى عن النبى الصادق الذى يحذرهم غضب الله ويبلغهم مشيئته ويملى عليهم فرائضه وأحكامه.
وعلى هذا انقسم المتنبئون لديهم أقساما ثلاثة: نبى يتكلم باسم الرب، ونبى يتكلم باسم آلهة أخرى، ونبى يتكلم باسم رب إسرائيل ولكنه يطغى بما فى قلبه على وحى ربه، فيخلط بين ما يقوله هو بلسانه وبين ما يجريه الله على لسانه ليبلغه إلى قومه.
نبوءة الأحلام والرؤى
ومن الحق فيما يرى الأستاذ العقاد، أن يذكر أن المتنبئين لم يتطلعوا جميعا إلى مكان النبوة العليا ـ نبوة القيادة والتعليم والتشريع. ولم تكن نبوة الكثيرين منهم مستمدة من شىء غير الأحلام والرؤى وجيشان الشعور، ويذكر الأستاذ العقاد أمثلة لذلك من سفر أرميا، ومن سفر صموئيل، ومن سفر دانيال، ومن سفر أشعياء.
ويذكر أن الأنبياء الكبار خشوا على الشعب خطر المعجزات والآيات التى يدعيها المتنبئون، لأنهم عرفوا عجائب السحر فى مصر وبابل وأشفقوا من فتنتها على عقول السواد.
دليل الأمان
إن مهمة النبوة كما قام بها الأنبياء الكبار هى أعلى ما ارتفع إليه نظر الأقدمين من بنى إسرائيل وغيرهم إلى مقام النبوة، فقد كانوا يعولون عليهم ويطلبون منهم ما لم يطلبوه قط من ذى ثقة أو مقدرة بينهم، فانتهت بهم هذه المطالب جميع إلى غاية واحدة: وهى أن النبى «دليل أمان». يقبلون منه التعليم والهداية، ويطلبون منه هدايته لأنها دليلهم إلى الطريق الأمين، ويستمعون له فيما يبلغهم به من أوامر الله ونواهيه.
ويجب عليه فى نظرهم ـــ قبل كل شىء ـ أن يعرف الغيب ليعرف الخطر المتوقع، وربما ليكشف لهم ما يريدون معرفته.
ولبثت مهمة النبى عندهم معلقة على دلالة الأمان فى المكان المجهول والزمان المجهول، ولكنها دلالة الأمان من أخطار محسوسة.
ولم يبلغ أحد من أنبياء بنى إسرائيل مكانة أعلى من مكانة يعقوب الذى إليه يُنسب 
بنو إسرائيل، أو موسى الذى يدينون له بالشريعة، ثم صموئيل وحزقيال وأرميا من أصحاب النبوءات غير المشترعين.
وقد كان الإنباء بالغيب هو المهمة الأولى من مهام هذه الطبقة ليذكروا مصائر أفراد معلومين إلى جانب مصير الأمة.
نبوة الهداية
واجب الإنصاف يقتضينى الإقرار بأننى فيما كتبته سلفا ـــ وأكثر من مرة ـــ عن النبوة المحمدية، قد استفدت كثيرا وعمقت فهمى ونظرتى، من كتابات الأستاذ العقاد فى هذا الموضوع، سواء فى كتابه فى موكب النور، أم فى كتابه عبقرية محمد، أم فى كتابات متفرقة له نشرت فى مجموعات مختلفة.
وأعاننى ما فهمته عن الأستاذ العقاد ـ على التوسع والإبحار فى هذا الموضوع، فتعددت وتنوعت كتاباتى فيه، ولكن يبقى الفضل لصاحبه فيما أمدنى من تعمق لا زلت أجنى ثماره إلى اليوم.
وطبيعى أن يمتزج عرضى لنبوة الهداية فى مطلع النور، بما استفدته وتأثرت به من كتابة الأستاذ العقاد، فإذا لم أستطع الفصل بين الأصل وبين الصورة، فإن الواقع أن كليهما مردود إلى الأصل، يرحم الله صاحبه الأستاذ الذى أفاض وأبدع، وأنار عقولا وأفهاما .
على خلاف النبوات التى ختمت فى بنى إسرائيل قبل البعثة الإسلامية بنحو تسعة 
قرون، جاءت النبوة المحمدية نبوة هداية، ليست نبوة استطلاع للغيب ولا إفحام للعقول بالخوارق المفحمة المسكتة، وإنما هى نبوة هداية أراد الله تعالـى لهـا أن تخاطـب وتفتــح «العقول» و«البصائر»، لا أن تفحمها وتقعدها عن النظر والتأمل والتدبر والتفكير والفهـم ـ ليست مهمة النبى أن يعلم الغيب «إِنَمَا الْغَيْبُ لِلهِ» (يونس 20)، وعلمه عند الله، «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَ هُوَ» (الأنعام 59)، «يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَاعَةِ أَيَانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِى لاَ يُجَلِيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَ هُوَ» (الأعراف 187).. هذا المعنى الفارق لم يكن محض تصور متروك لاستخلاص الناس أصابوا فى ذلك أم أخطأوا، وإنما هو توجيه قرآنى صادر بأمر ربانى صريح إلى النبى أن يبدى للناس أنه ليس إلا بشرا رسولا اصطفاه ربه لحمل وأداء الرسالة ـ «قُلْ سُبْحَانَ رَبِى هَلْ كُنتُ إَلاَ بَشَرا رَسُولا»؟ (الإسراء 93).. هذا الأمر الربانى ببيان جوهر الرسالة المحمدية، ورد فى معرض نقد تعلق الناس بالخوارق الحسية التى ثبت بتجارب البشرية أن مآل أثرها إلى الانقضاء والانطمار.. فى ذات سورة الإسراء تقدمة لهذا الأمر والبيان الإلهى، تنبيه واضح إلى الفارق الجوهرى بين نبوة هداية قوامها القرآن، وبين التعلق الضرير بالخـوارق الحسية !.. تقول الآيات الحكيمات: «قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا * وَلَقَدْ صَرَفْنَا لِلنَاسِ فِى هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَاسِ إِلاَ كُفُورا * وَقَالُواْ لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَةٌ مِن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَـا تَفْجِيرا * أَوْ تُسْقِطَ السَمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَـى فِـى السَمَاء وَلَن نُؤْمِنَ لِرُقِيِكَ حَتَى تُنَزِلَ عَلَيْنَا كِتَابا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِى هَلْ كُنتُ إَلاَ بَشَرا رَسُولا» (الإسراء 88 ــ 93).. فى تماحى أثر الخوارق، وتلمس المكابرين التعلات والأسباب للتملص منها، يقول القرآن المجيد: «وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابا مِنَ السَمَاء فَظَلُواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَمَا سُكِرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (الحجر 14، 15).. فليست الخوارق مما يغنى فى دعوة المكابر المعاند المفتون، ولا هى أداة الدعوات لمواجهة ما يأتى به قابل الأيام!!
لذلك أراد الإسلام لنبوة القرآن أن تكون نبوة فهم وهداية تدعو بكتابها المبين إلى النظر والتأمل والتفكير، وليست نبوة استطلاع وتنجيم وخوارق وأهوال.. النبى ليس منجما ولا عالمـا بالغيب، وليست النبوة نبوة سحر أو رؤى أو أحلام أو قراءة طوالع وأفلاك.. «قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعا وَلاَ ضَرا إِلاَ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَنِى السُوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الأعراف 188).. لذلك حرص رسول القرآن أن ينحى عن أذهان الناس سمعة المعجزة المسكتة عندما جاءته ميسرة يوم كسفت الشمس وظن الناس أنها كسفت لموت ابنه إبراهيم، فأبى عليهم ذلك، ونبههم إلى أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفـان لمـوت أحد ولا لحياته.. ومع تعدد ما ورد فى المأثورات عن المعجزات والآيات التى صاحبت مولد محمد عليه السلام وطفولته، إلا أن عنايته الكبرى كانت بلفـت انتبـاه الناس إلـى معجـزة القـرآن وما ينطوى عليه من آيات ومدد لا ينقطع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved