رؤية المصب المتجدد تصطدم بواقع ملىء بالتحديات

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الجمعة 21 أكتوبر 2022 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

هل فعلا يمكن أن نحاكى الطبيعة فى برج رشيد أم أن التحديات المتعددة والتى لا يمكن أن تخطئها، يمكن أن تحول هذه الرؤية إلى مجرد حلم أو خيال بعيد المنال؟ ما لا يكف عن إدهاشى فى منطقة برج رشيد هو ما رأيته عدة مرات عندما زرت ساحل البحر المتوسط الذى يبعد كيلومترات قليلة للغرب من المكان؛ حيث المرحلة الأولى من مدينة رشيد الجديدة آخذة فى التبلور فى صورة العديد من العمارات السكنية البالغ ارتفاع كل منها حوالى اثنى عشر طابقا. المدهش هنا هو أن الأراضى المحيطة بتلك العمارات مغمورة بالمياه ما يجعلك تتساءل لماذا يتم اختيار مثل تلك الأراضى التى بها هذا الكم من المياه نظرا لقربها من البحر وما يمكن أن تتخيله من مما تحتاجه أساسات تلك العمارات المرتفعة من تجهيزات وتكلفة إضافية لجعلها مستقرة وآمنة؟ كما مبانى جامعة رشيد التى يرتفع أحد مبانيها حاليا بثلاثة أدوار وترى أيضا المياه منتشرة فيما حوله وتتساءل كيف اختار مسئولو الجامعة هذا المكان الذى لا يكلف المزيد للبناء فقط ولكنه أيضا يسهم فى المزيد من تدهور البيئة الطبيعية للمكان وهم من يفترض فيهم أن يضموا فيما بينهم من العلماء الذين يراجعون ويدرسون ما قد يكون خفى على هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة؟. ما يزدك دهشة أو ربما تعجبا أن ترى عمارة مبانى الجامعة وقد أنكرت أى صلة لها بعمارة رشيد التاريخية الرائعة ولا بمواد البناء المحلية التى ميزت رشيد عبر تاريخها وجعلت منها مقصدا مهما للسياحة الداخلية وأيضا لبعض السياحة الخارجية.
كيف نبنى مدينة جديدة بها ربما الآلاف من مثل هذه المبانى فى أراضٍ بها مشكلة ارتفاع لمنسوب المياه الجوفية وهذا المنسوب سيرتفع بصورة كبيرة جراء ارتفاع منسوب سطح البحر الذى حتى لو استطاعت المنشآت الجديدة حمايته من التهديدات بالغرق من النوات وما شابهها فإنها لن تستطيع حمايته من الارتفاع المتوقع لمنسوب المياه الجوفية وزيادة ملوحتها نتيجة ضغط مياه البحر المالحة؟ هو سؤال لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة ووزارة الإسكان أتمنى أن يتفكروا فيه جيدا كما أتمنى أن تتم مناقشات جادة حول مستقبل هذا المكان وماذا سيحدث لو تم استكمال بناء مدينة رشيد الجديدة كما هو مخطط لها؟ وهل سيؤدى ذلك إلى تفاقم التدهور البيئى للمكان بدلا من إيقاف التدهور الحادث فعلا؟.
• • •
على بعد مئات الأمتار من ساحل البحر تبدأ المناطق الزراعية لبرج رشيد وتعجبت، منذ بدأنا دراستنا للمكان منذ ما يقرب من ثمانى سنوات، لحال تلك الأراضى الزراعية والتى تم تحويل الكثير منها لبحيرات صغيرة لتربية أو قل لزراعة الأسماك. قدرت دراسة لإحدى طالباتى منذ سنوات مسطح الأراضى الزراعية التى تم تحويلها لمزارع سمكية بحوالى أكثر من ثمانمائة فدان.
لأننى منذ زرت رشيد لأول مرة، ربما منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما، كنت أعرف أن هناك أنواع فاكهة محددة تنتجها المنطقة ولكن فى خلال السنوات الأخيرة لاحظت انتشار زراعة أشجار المانجو تحت أشجار النخيل بالرغم من أن ذلك لا يبدو منطقيا لأن الشجر المثمر بحاجة لشمس ولكن كما أجابنى أحد المزارعين أن الإنتاجية مهما كانت أقل فهم بحاجة لها. ورأيتهم يزرعون أيضا على الأرض شجيرات الطماطم. أعرف بالطبع مشكلة ازدياد ملوحة التربة فى المكان وتأثيرها على ضعف الإنتاجية ولكنى أعرف أيضا أن أحد تأثيرات التغيرات المناخية المتوقعة هو زيادة كبيرة لتلك الملوحة، بالإضافة إلى زيادة ملوحة المياه الجوفية وارتفاع منسوبها.
كما تواجه قلعة قايتباى أو ما سميت سابقا بـ«طابية جوليان» تهديدا حقيقيا بالغرق فى مستقبل ليس ببعيد وهى هذا المكان الذى بدأ منه علم المصريات نتيجة المجهودات الرائدة للعالم الفرنسى شامبليون. ولكن هل فعلا يمكننا البدء فى العمل لإنقاذ القلعة أم أن للحكومة تصورات أخرى، وهل التصورات الأخرى إن وجدت تضع تحدى غرق القلعة فى عين الاعتبار أو تضع ارتباط القلعة ومحيطها من أولوياتها؟ طبقا للمعلومات المتوافرة طورت الحكومة خطة لتطوير مدينة رشيد فى عام 2018 وتشمل تلك الخطة تطوير منطقة برج رشيد مع تركيز خاص على قلعة قايتباى نظرا لكونها مزارا سياحيا وذلك فى إطار ما سُمى بمشروع قومى للنهوض برشيد ويعتمد أساسا على فكرة تحويلها إلى متحف مفتوح. وفى الخطة سيتم إخلاء المساكن المحيطة بالقلعة كما سيتم بناء ميناء لليخوت بالقرب منها والهدف ببساطة هو تحويلها قبلة للسياح والاستفادة مما يجلبه هؤلاء معهم وما ينفقونه لدعم الاقتصاد المحلى والقومى. لم أرَ فى تلك الخطة ما يتحدث عن التحديات التى يجلبها التغير المناخى للمكان وكيف نتعامل معها وربما هذا يعزز الافتراض أن من قام بعمل الخطة تصور أن السنوات القادمة لن تحدث تغييرا يذكر فى حال القلعة وأن كل ما هو مطلوب هو نفض التراب من حولها وإبعاد الأهالى غير الواعين بقدرها وتوفير كل الخدمات والراحة للسائحات والسائحين الأجانب حتى ينفقوا ما بحوزتهم.
• • •
ما يثير الدهشة أيضا أن الحكومة ممثلة فى وزارة الرى تنفذ مشروعا للتكيف مع التغيرات المناخية بمنطقة ساحل رشيد وذلك بهدف حماية المناطق الداخلية من الغرق أساسا وهذا المشروع فى طور التنفيذ. هل بُعد المشروع بكيلومترات قليلة هو السبب فى عدم التعامل مع هذا التهديد الحقيقى أم أن هناك أسبابا أخرى؟
أعرف أن سكان القرية يعانون من عدم توافر الصرف الصحى والذى بدوره يتسرب من الخزانات الأرضية للتربة والمياه الجوفية مما يزيد من تلوثهما. كما أعرف أيضا معاناتهم مع توافر المياه العذبة للشرب والاستخدامات اليومية. وفى العديد من زياراتى رأيت من يعملون فى ورش تصنيع الأقفاص من جريد النخيل هم فى الأغلب من كبار السن ورأيت صغيرات يعملن معهم كمساعدات، هل سافر الشباب لدول أخرى للبحث عن عمل أفضل كهذا الذى قابلته فى إحدى المرات؟.. ربما ولكن ليس لدينا إحصائيات دقيقة بهذا الخصوص.
يمكننى أن أضيف أيضا عددا آخر من التحديات فى المكان ولكن ما لا يجعلنى منزعجا كثيرا أن الطريقة التى نعمل بها فى بحوثنا العملية تقوم على عدم تجاهل التحديات التى نواجهها بل التفكير بكل جدية فى كيفية تحويل تلك التحديات إلى فرص للتقدم للأمام باتجاه الازدهار والتجدد. وهى طريقة ساعدتنا وتساعدنا للبحث عن ما هو مبتكر ونستطيع من خلاله بناء قدراتنا ومساعدة المجتمع ومؤسساته على مواجهة هذه التحديات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved