الوطنية الكروية بين عودة الروح وطلوعها

هاني شكر الله
هاني شكر الله

آخر تحديث: السبت 21 نوفمبر 2009 - 12:00 م بتوقيت القاهرة

 أحيانا ما تسبق محطات التليفزيون برامجها أو متابعاتها الإخبارية بتحذير للمشاهدين بأن ما سيتبع من محتوى أو مشاهد قد يؤذى أحاسيس بعضهم، لسبب أو لآخر، وأجدنى محتاجا لأن أبدأ هذا المقال بتحذير مشابه للقراء، فعلى الأرجح سيجده الكثيرون منهم مؤذيا لأحاسيسهم، تلك التى التهبت حماسا وتفجرت صخبا وفاضت فرحة وحزنا خلال الأيام الماضية بمناسبة لقاء كرة القدم بين مصر والجزائر لتحديد أى منهما يدخل «المونديال» ليسارع بالخروج منه.

وبجانب التحذير هناك توضيح واجب، أضيفه قبل النشر. هذا المقال كتب قبل يوم «الأربعاء الحزين»، وكنت أتوقع الفوز لا لشىء غير أن الجميع فى هذا البلد تقريبا، وكلهم يفهمون فى كرة القدم وأحوالها أكثر منى، كانوا واثقين منه ثقة تامة، ومن ثم فالكتابة التالية ليست مدفوعة لا بالإحباط من الهزيمة ولا هى تنطوى على شماتة من أى نوع.

ودعنى أقر بادئ ذى بدء ــ وكى أعطى الفرصة كاملة للانسحاب المبكر درءا لجرح المشاعر ــ بأن حالة الوطنية الكروية التى تدفقت عارمة فى أنحاء الوطن، وزانت الشوارع المصرية بألوان العلم المصرى الزاهية لم تبعث فى نفسى أملا بل حسرة، ولم أرَ فيها عودة للروح وإنما مؤشرا جديدا على «طلعانها».

ولكن دعنى أسأل من صمد من بين القراء متابعا لحديثنا الجارح هذا: ألا تعتقد أن هناك قدرا ما من المبالغة فى خطاب الحلم والأمل واللحظات التاريخية والانتصارات التاريخية، وفى مشاهد الدموع والأحضان والهتافات والمسيرات المليونية، وفى مانشتات الصحف ومهرجانات التوك شو؟ أليس هناك شىء ما مخجل فى أن نقارن مباراة للكرة أيا ما كانت أهميتها فى عالم الكرة ببناء الأهرامات والسد العالى وبمعجزة العبور فى 73؟ ألا ترى عزيزى القارئ ــ رغم كل ما فاضت به مشاعرك خلال الأيام والأسابيع الماضية من مشاعر وطنية جارفة ــ أن فى هذا كله نوع من الابتذال لتاريخنا، ولما ينطوى عليه ذلك التاريخ من بطولات وإنجازات وتضحيات حقيقية، وفى أمور أكثر أهمية من مباراة لكرة القدم، ساهم فى تحقيقها مصريون يتجاوز عددهم الـ11 شخصا؟

وهنا فى الواقع يكمن الوجه الأساسى لانزعاجى من مظاهر الانبعاث الوطنى التى تطل علينا بين الفينة والأخرى لتسبح بنا فى بحر من التدله فى حب مصر، وذلك هو شكى العميق فى أن هذا البعث الموسمى ــ كروى الطابع والهوية ــ ينطوى على محتوى حقيقى من أى نوع، أو أن شيئا ما ايجابيا يمكن أن ينتج عنه.

دعنا نحاول إذن أن نمسك ببعض المكونات الرئيسية لحالة اليقظة الوطنية الكروية، استكشافا لما تحمله من محتوى، أو ربما خواء، بادئين بوجهها الأكثر قبحا، وهو ذلك الماثل فى إحاطة المنافسة الرياضية بحمى قبلية متصاعدة، تقوم على كراهية الآخر، والتحريض ضده، واللجوء إلى أى مفردات عنصرية جاهزة أو يمكن تصنيعها على عجل لوصم ذلك الآخر ككل قبيح جدير بالبغض والاحتقار، وفى نهاية المطاف مستحق لممارسة العنف ضده.

هناك نوع من السخف فى البحث فيمن بدأ بالتحريض ضد الآخر، وليس عذرا لنا أن الغوغاء الجزائريين كانوا أكثر همجية وأشد عنفا من أقرانهم من الغوغاء المصريين.

وليس عذرا مقنعا أن بلدان أخرى «متقدمة» تشهد عنفا وتحريضا كرويا. التحريض فى بلدان كبريطانيا وألمانيا يجرى فى الهامش الأيديولوجى والإعلامى، أدواته الأساسية هم المتطرفون والإعلام الأصفر بكل أنواعه. أما عندنا ــ سواء فى مصر أو فى الجزائر ــ فقد لعب الإعلام الرسمى، ولا أعنى الحكومى، ولكن ما يسمى بالإنجليزية الـmainstream أى التيار العام، الدور الأكبر والأشد خطورة فى التحريض والتهييج وإثارة أحط المشاعر عنصرية وبدائية وتغييبا للعقل. (من الواجب مع ذلك الإقرار بأن كبريات «الصحف القومية» المصرية، وبخاصة جريدة الأهرام التزمت إلى حد كبير بتناول أخلاقى ومسئول).

واقع الأمر أنه بين عشية وضحاها تحولت الجزائر إلى عدو مصر الأول، وتحول الشعب الجزائرى إلى الهدف الأبرز لكراهية المصريين وازدرائهم، وكذا فيما يبدو أصبح الشعب المصرى بالنسبة للشعب الجزائرى ــ وواقع الأمر أن ذلك لم يحدث فيما بين الهوامش الأكثر تخلفا وجهلا وتطرفا فى المجتمعين ولكن فى القلب من «التيار العام» لكل منهما.

الاستعداد العالى للشعوب العربية للانقلاب على بعضها البعض، لأتفه الأسباب، والاستعداد العالى عندنا هنا فى مصر، للانغماس فى حالة من الحمى الوطنية قوامها التحريض على شعب عربى آخر، تكشف عن عمق وحدة المرض الذى أصاب الوطن العربى فى العقود الأخيرة، يكاد يكثفها المثل الشعبى المصرى المعروف: «ما قدرش على الحمار، اتشطر على البردعة». حالة فشل عام وإحباط عام وإخفاق على كل المستويات وشعور عميق بالمهانة تبحث كلها عن متنفسات سهلة، عن مجالات لإخراج بعض مما يختزن فى النفوس من غضب وإحباط وشعور بالإهانة شرط ألا يكلفنا ذلك جهدا أو يعرضنا لعقاب ــ إنها بالضبط حالة الموظف أو العامل الذى يهينه رئيسه فى العمل فيعود إلى بيته ليضرب زوجته. وما أتعسها من حالة.

(مفارقة طريفة حزينة: خلال الأيام الماضية خرج أهالى غزة رافعين الأعلام المصرية، مشجعين للمنتخب المصرى ومبتهجين بالفوز المصرى فى مباراة السبت، وكان المصريون قد «هبوا» دفاعا عن السيادة الوطنية ضد محاولات «الغزو» التى قام بها كهول غزة ونساؤها وأطفالها إبان العدوان الإسرائيلى المتوحش على أراضيهم يناير الماضى).

ويبدو لى أن الكسل هو العنوان الأبرز لحالة البعث الوطنى كروى الطابع، فهى وطنية لا تطلب منك شيئا، تضع كل طموحاتك وآمالك بل و«الحلم الوطنى» بأسره، فى 11 شخصا وربما ضعف أو حتى ضعفى ذلك الرقم من مدربين وإداريين ولاعبين احتياطيين، وكل المطلوب منك هو الدعاء والتهييص (ضرب الجزائريين بالطوب أو التعرض للضرب على أيديهم يعد «أوبشيونال»)، وذلك فى مزيج نموذجى من التدين الشكلى وافتقاد الإرادة الوطنية الذى يشكل أحد العناوين البارزة لحياتنا المعاصرة.

ليست المشكلة فى الوطنية الكروية إنها وطنية ناقصة أو قاصرة، لمجرد أنها لا تنصب على القضايا الوطنية الأهم، ولكنها بالتحديد لأنها تستعيض عن الوطنية الحقيقية بوطنية مزيفة. لسنا بحاجة للمشاركة السياسية فى تحديد مستقبل بلدنا، لسنا على استعداد لبذل الجهد وتقديم تضحية من أى نوع للدفاع عن كرامتنا الوطنية ضد أعدائنا الحقيقيين. نمسح منازلنا ونلقى بالمياه الوسخة والزبالة فى الشارع، ونتعامل مع الشارع كما لو كان ساحة حرب للجميع ضد الجميع. يكفينا وطنية أن نشجع المنتخب الوطنى لكرة القدم كل بضعة شهور.

ولكن لنلاحظ أيضا كم هبط سقف طموحاتنا «الوطنية». نريد انتصارات تاريخية لا نبذل جهدا لتحقيقها أبعد من التصفيق والهتاف لـ11 لاعبا أعلناهم مصب «حلمنا الوطنى»، حيث جعلنا من الفوز فى مباراة لكرة القدم «حلما وطنيا، وحيث المباراة/ الحلم هى مجرد الدخول فى المنافسة على كأس العالم وليس الفوز به، وهو دخول نعرف مسبقا أنه يمر بباب دوار، أى دخول يتبعه خروج، ونعترف صراحة بأن «تاريخية» المباراة تنبع من أنها قد تكون فرصتنا الأخيرة فى دخول كأس العالم لعقود مقبلة.

منذ بضعة شهور كتبت فى هذا المكان، التالى: «مباريات المنتخب الوطنى لكرة القدم تبدو المؤشر الوحيد لوجود ما يمكن أن يسمى بالشعب المصرى، يختفى بانتهاء المباراة فى حالة الخسارة، وبعد بضع ساعات من الاحتفال فى حالة الفوز».

روعة الوطنية الكروية أنها وطنية لا تحتاج إلى مواطنين، يكفيها مجرد «مشجعين».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved