وقفة أخرى مع الصديق الروسي

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 21 نوفمبر 2015 - 2:15 م بتوقيت القاهرة

 الخطوة بذاتها ضرورية، فلا يشك أحد في أولوية تأمين الطاقة اللازمة لمستلزمات الحياة والإنتاج يمتد إلي أجيال قادمة.

والخطوة بتوقيتها رسالة، فالعلاقات المصرية الروسية تعرضت لتساؤلات عن مستقبلها، وبعض التساؤلات ألغاز.

بين الضرورة والرسالة يومئ توقيع اتفاق المحطة النووية لاحتمالات تعاون أوسع يحرك عقود السلاح التي لم تنفذ ويجدد القلاع الصناعية التي تدهورت بقسوة ويرفع منسوب العلاقات التجارية ويعيد حركة السياحة إلى سابق عهدها قبل حادثة الطائرة الروسية.

بذات القدر فإنه يومئ إلى تفاهمات ممكنة في الملف السوري وفرص تسوية الأزمة الأكثر دموية.
تحت الأضواء اللامعة للحدث الكبير الذي هو حلم مصري قديم يعود إلى الخمسينيات فإن أكثر الأسئلة جوهرية: إلى أي حد تمضي السياسة المصرية في انفتاحها على المراكز الدولية المتعددة دون خشية من ضغط أو تردد في خيار أو تراجع في خطى؟

الوقوف في منتصف الطريق خطيئة سياسية كاملة.

أخطر شيء في إدارة المصالح العليا لأي بلد أن تتوه بوصلته السياسية فلا يعرف أين يقف ولا ما خطوته التالية.

هنا بالضبط مأزق العلاقات المصرية الروسية.

إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقائق فإن المسئولية الأولى تقع علينا.

بعد (٣٠) يونيو مباشرة جرت اتصالات غير معلنة بين موسكو والقاهرة التي كانت تتعرض لما يشبه الحصار الدبلوماسي أفضت إلى تفاهمات سياسية وعسكرية لها قيمتها ورسائلها.

بعد وقت قصير للغاية انتقلت التفاهمات الأولية إلى العلن الدبلوماسي والعسكري.

وكانت زيارة وزيرا الخارجية والدفاع الروسيين "سيرجي لافروف" و"سيرجي شويجو" إلي القاهرة حدثا كبيرا ترددت أصداؤه في العواصم الكبري.

‫فـ"لافروف" هو ثعلب السياسة الخارجية الروسية و"شويجو" الشخصية الثالثة في الكرملين.‬

‬بدا الهدف الرئيسي من الزيارة الاستثنائية التعرف عن قرب على الرجل القوي الجديد وفي المخيلة العلاقات التي تهدمت والجروح التي لم تندمل منذ عام (١٩٧٢).

في هذا العام طرد الرئيس الأسبق "أنور السادات" الخبراء العسكريين السوفييت بصورة أقل ما توصف به أنها مهينة.

كانت المفارقة الكبرى في حرب (١٩٧٣) أن المصريين حاربوا بالسلاح الروسي والجوائز جناها الأمريكيون الذين حاربت إسرائيل بسلاحهم.

تاليا قام وزير الدفاع المصري آنذاك الفريق أول "عبدالفتاح السيسي" برفقة وزير الخارجية "نبيل فهمي" برد الزيارة وفق صيغة (٢+٢).

وقد حظي "السيسي" باستقبال يفوق وضعه الرسمي من الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين".
وكان ذلك رهانا علي المستقبل.

في تلك الأثناء جرت مفاوضات عن صفقات سلاح روسية تشمل طائرات "ميج ٢٩" وصواريخ "أس ٣٠٠" كرد عملي على تعليق المعونة العسكرية الأمريكية واحتجاز طائرات أف (١٦) من أن تصل إلي مصر.

لابد أن ندرك بوضوح أن اقترابنا من موسكو أدي إلى تفكيك العزلة السياسية والتعجيل برفع العقوبات العسكرية المفروضة ودخلت فرنسا علي الخط بصفقة طائرات "الرفال" بضوء أخضر أمريكي.

بالوقت بدأ الروس يتساءلون عما إذا كانت اللعبة القديمة سوف تتكرر مرة أخرى.

استخدام موسكو للاقتراب من واشنطن.

أرجو ألا ننسى أن هذه عقدة مستحكمة في الكرملين.

لا يمكن القفز على التاريخ وتجاربه وجروحه عندما نتطلع إلى انفتاح جديد على الصديق الروسي.
خبرة التاريح محفورة في الذاكرة وعقده تحكم التصرفات.

أسوأ استنتاج روسي ممكن أن يضعوا رهانهم علي "جمال عبدالناصر" جديد فيجدوا أمامهم "أنور سادات" آخر.

هذا الاستنتاج من بعض أسباب الخشونة الروسية الزائدة في الإجراءات التي اتبعتها بشأن أزمة طائرتها المنكوبة وبدت انقلابا ولغزا.

توقيع اتفاق المحطة النووية يبعد بعض الشىء أشباح الماضي.

كان العرض الروسي سخيا بأية معايير اقتصادية ومتقدما بكل حسابات تكنولوجية حديثة.

التسهيلات السياسية قبل أن تكون اقتصادية.

الكلام في السياسة قبل وأثناء وبعد أية مشروعات عملاقة مثل إنشاء المحطة النووية بتكاليف تسدد من عوائدها علي مدى (٣٥) سنة.

إنها أولا وثانيا وثالثا الرهانات الاستراتيجية الكبرى.

فالدول ليست مولات تجارية تتسوق فيها وتشتري احتياجاتك دون أن تكون هناك أرضية صلبة لتفاهمات سياسية.

بالنسبة إلي الروس فالأولوية الآن للأزمة السورية والحرب علي "داعش".

أرجو أن نتذكر أن الحضور المصري في مفاوضات فيينا التي سوف يتقرر فيها مستقبل التسوية السياسية السورية جاء بضغط روسي ولم يكن أحد آخر في العالم والإقليم متحمسا لمثل هذا الحضور.

غير أن مصر لم تبد حيوية كافية ولا بادرت بأية أفكار تزيح تلال المشاكل وبدت محرجة بأكثر مما هو طبيعي من حليفتها السعودية رغم أن الأخيرة سوف تكون مدعوة إلي الحوار مع إيران إذا ما دخلت التسوية السورية مراحلها الأخيرة.

بكلام آخر فإن تكبيل السياسة الخارجية المصرية أحبط أي دور إيجابي في الملف السوري.

هذه حقيقة أخرى من وراء الخشونة الروسية في إدارة أزمة سقوط طائرتها.

شيء من الضجر الصامت على غياب ما راهنت عليه من أدوار مصرية توازن القوى الإقليمية الأخرى.

الإجراءات الروسية الاحترازية مفهومة حتى لا تتكرر حادثة الطائرة غير أن ظلال الاحباط يمكن رؤيتها.

بحقائق العالم الجديدة لا تعني الصداقة الوطيدة مع أية دولة خصومة مع الدول الأخرى.

زمن الحرب الباردة انتهى وانقسام العالم إلى معسكرين طواه التاريخ.

غياب حيوية المبادرة والحركة والانفتاح على القوى الإقليمية والدولية بقدر ما هو مستطاع سحب عن الدور المصري أية رهانات جدية عليه.

هناك الآن قرارا دوليا لتسوية الأزمة السورية والباقي تفاصيل تخضع للتجاذبات.

أين مصر بالضبط؟

ما حدود حركتها؟

وما تصوراتها؟

لا توجد إجابات تفارق ما هو شائع من عبارات إنشائية.

هذا وضع يربك الصديق الروسي كما يربك الحلفاء والخصوم بنفس القدر.

توقيع اتفاق المحطة النووية قيمته السياسية في توقيته.

يرمم الثقة المتصدعة ويرفع من منسوب الهيبة.

يلفت تماما في التوقيت نفسه الاجتماعان المتعاقبان لمجلس الأمن القومي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.

الأول تقرر فيه بصورة نهائية قبول العرض الروسي.

والثاني تتطرق إلى الأخطار الإقليمية والسيناريوهات المحتملة.

في الاجتماعين ترقب لأحداث كبرى قادمة.

لم يعد مستبعدا التدخل البري في سوريا بذات اللحظة التي تتشكل فيها حكومة توافق وطني.

ما نحتاجه الآن أن تكون الأفكار واضحة والرؤى معلنة والسياسات متسقة مع المصالح المصرية العليا.

بنفس القدر فإن تجنب أخطاء الماضى مسألة حاسمة.

أية رؤية إن لم تستند إلي قراءة في التاريخ فهي تهويم.

ما نحتاجه الآن وقفة أمام أنفسنا قبل أن تكون مع الصديق الروسي.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved