زحمة يا دنيا

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2019 - 1:40 ص بتوقيت القاهرة

ألا تتوقف الأحداث قط فى هذه المنطقة؟ ألا يمر يوم دون خبر علينا أن نتفاعل معه؟ ألم يعد هناك بعض من الوقت يقتطع من شريط الأخبار دون جديد يفرض نفسه على العقل والعواطف؟ ضعى هاتفك الذكى جانبا، يقال، حتى تستطيعى أن تركزى على من حولك وتعطيهم بعض الانتباه. حاضر، سوف أمضى ساعة دون النظر إلى الفضاء الأزرق. أنا لا أستمع إلى الأخبار ولا أشاهد البرامج السياسية، تقول صديقة. فعلا؟ وكيف تواكبين ما يحدث من حولك؟ أتساءل. تجيب أنها قررت أن تمرن حدسها على الاستشعار بالأحداث دون أن تلصق وجهها بالشاشة الصغيرة التى تنقلها، عبر هاتفها الذكى إلى بلاد تثور وشوارع تهتف ضد النظام السياسى. حسنا، لنجرب تلك الوصفة السحرية.

***
ها أنا دون هاتف، أمشى فى الشارع فلا أعرف طريقى. لا يهم، لن أستعين بصديقى الصغير الذى يفتح لى خريطة المدينة. سوف أتلمس طريقى وأستخدم حدسى علنى أصل. تمضى ساعة أهيم بها على وجهى فى طرقات أسلكها كل يوم مع الخريطة الرقمية وها أنا اليوم أتوه دونها. فى كل مدينة عشت فيها من قبل، تعرفت على الشوارع من خلال بقال على الناصية أو خياط يعرض فساتين الأعراس على واجهته. لم أعد أعلم الشوارع بالحوانيت منذ أن اكتشفت نظام جوجل لتطبيق الخرائط. لم أعد أتفاجأ بخبر لأننى على الأرجح أكون قد قرأته على الأخ الأكبر جوجل للأخبار. أعرف عن زواج وطلاق الأصدقاء قبل أن يهاتفونى، أسمع عن الولادات وحفلات أعياد الميلاد بل وعن مجالس العزاء من مكانى فى بيتى فى مدينة أخرى.

***
الفضاء الافتراضى مزدحم، يطرق بابى أو حتى لا يطرقه فلا باب بينى وبينه، يقتحم حياتى تماما فأعيش على نبض بيروت وطرابلس، وأسمع القصف الجوى فى سماء إدلب، اشاهد مراسم زواج أحد أفراد العائلة المالكة فى دولة أوروبية، لا أعلم أصلا أى دولة ولا يهم، أتابع برنامجا وثائقيا عن زيارة الرئيس المصرى أنور السادات إلى اسرائيل وفى الوقت ذاته أرى على شاشة هاتفى أن وزير الخارجية الأمريكى يعلن أن المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية فى فلسطين ليست منافية للقانون الدولى. زحمة فى الشاشات وزحمة فى رأسى، أما حولى فلا شىء. أنا وحدى فى غرفة منزلى فى وقت متأخر من الليل أحاول أن أهدئ من الأصوات التى تتسلق على جدران رأسى من الداخل، أصوات تتداخل فأسمع صاروخا يفجر حيا سكنيا وصوت رئيس راحل يعلن عن مرحلة جديدة ووزير حالى ينسف المنطق السياسى كله فى جملتين. من بعيد يأتينى صوت زوجى يتساءل لماذا أجلس فى الظلام فلا أرد لأننى لا أعرف إن كان فعلا قد دخل إلى الغرفة أم أنه صوت إضافى يحاول التسلل إلى عالمى.

***
أتخيل أحيانا لو كنت ولدت فى مكان لا يمت للشرق الأوسط بصلة، ماذا لو كنت من أيسلندا، ذلك البلد الوديع الذى لا نسمع عنه كثيرا، لا أخبار سيئة ولا جيدة، عدد سكانه لا يحتمل أن ينتشروا فى العالم فلا نلتقى بهم ولا نكون عنهم نظريات. ماذا لو كنت من جزر المالديف؟ دعونا من المالديف، لو كنت ولدت فيها لكنت قلقة اليوم على مستقبل الأرض فى مواجهة التغير المناخى والجرائم التى ارتكبها الناس على مدار العقود وها هى تهدد وجود الجزر خاصتى.

***
تتلاعب بى الأفكار كأننى كرة قدم، ترمينى الأحداث من مكان فى الملعب الكبير إلى زاوية بعيدة، تتقاذفنى الكلمات وتحشرنى فى المرمى فأعلق بين خيوط الشبكة، شبكة أخبار عنكبوتية تلتف على من كل الجهات لكنى أرى العالم من خلال فتحاتها. يقال إن كرة القدم تسبب الإدمان وكذلك الأخبار. أظن أن الزحمة أيضا تسبب الإدمان. سألتنى صديقة أخيرا عن المكان الذى أحب أن أكون فيه حين أريد أن أهرب فقلت لها بيروت أو القاهرة أو نيويورك. استغربت الصديقة وظنت أننى لم أفهم السؤال فكررته بطريقة أخرى: أين تريدين أن تختبئى؟ على قمة جبل مثلا أو أمام البحر؟ أجيبها أننى فهمت السؤال وأننى أختبئ فى الزحمة، أذوب فى زخمها، أصرخ مع شارعها حتى لو لم يسمعنى أحد، أتحول إلى تفصيل لا يلفت الانتباه وسط ملايين التفاصيل الأخرى، أتحرك كذرة هربت من جسد كبير فتطايرت مع هواء المدينة وحطت حينا على طاولة فى مقهى وحينا آخر على كتف رجل عجوز جلس على كرسى من القش أمام منزله.

***
هناك، ألتقط أنفاسى بينما أسترق السمع إلى حديث فى القهوة، لا يرانى أحد فأنا ذرة فى مدينة مزدحمة، أتنفس على وقع الأحداث فأحسب الشهيق والزفير على هوى الأخبار. الدنيا زحمة والفضاء الافتراضى لا يتوقف وها نحن نتحول إلى خبراء فوريين فى مجالات كثيرة، لأكتشف أن لا صدف فى السياسة، وما يحدث فى مكان لا بد أن يكون مرتبطا بمكان آخر. أحاول أن أفكك الزحمة من حولى فأشعر أننى أفكفك كرة من الصوف تداخلت خيوطها إنما فى الواقع هى كرة واحدة كبيرة. وأنا ذرة حطت على طرف الخيط بينما حاول أحدهم أن يسحبه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved