ليتك ولدت عندنا

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: السبت 21 ديسمبر 2013 - 9:09 ص بتوقيت القاهرة

أستعير هذا العنوان من الأستاذ غسان شربل فى افتتاحيته لجريدة الحياة اللندنية يوم السبت 7 ديسمبر 2013، والذى يقصد به نيلسون مانديلا، وأترجم هذا العنوان على مصرنا العزيزة، فالقضايا الساخنة والمعقدة التى تحاورنا حولها فى الآونة الأخيرة نجد حلها فى شخصية مانديلا وسأذكر البعض منها:

أولا: قضية الهوية: لقد كانت قضية الهوية من أعقد القضايا فى دستور 2013، لكن بالعودة إلى مانديلا نلاحظ أنه كان يجمع فى هويته التراث الأفريقى ويؤمن به، فلقد أوصى أن يدفن جثمانه بجوار والديه فى قرية كونو بحسب التقاليد القبلية وهذا معناه أن يغطى جسده بجلد فهد كما يغطى رؤساء القبائل الأفريقية، وكان يؤمن أن روحه سوف ترفرف فوق جسده بصلاة معينة، وترافق جثمانه حتى الدفن ثم تستمر هائمة فى مكان طفولته وأن أزهار الخشخاش الجميلة سوف تساعد الروح على ذلك ويدفن عندما تكون الشمس فى رابعة النهار مع أقل مساحة من الظل فى ذات الوقت كان مانديلا يؤمن بالدين المسيحى والذى شكل وجدانه بصداقته للأسقف ديزموند توتو، وهو رفيق عمره، حيث كان جاره فى الشارع الذى يسكن، وقد شكل الإيمان المسيحى الكثير من القرارات التى اتخذها فى حياته، وكان مواظبا على العبادة المسيحية.

والتراث الأفريقى مع الإيمان المسيحى لم يمنعاه من الانتماء رفيع المستوى لوطنه ولا من الدفاع عنه ضد العنصرية البغيضة، ولم يشعر إطلاقا بالتناقض، فالتاريخ الأفريقى امتزج بالإيمان المسيحى، والاثنان امتزجا بوطنية فريدة وحب حقيقى لوطنه، هذا فى الوقت الذى رفض فيه بعض الأفارقة الإيمان المسيحى لأنه بحسب وجهة نظرهم يتناقض مع تراثهم الأفريقى ورفض البعض الآخر انتماءهم لوطنهم لأنهم ينتمون إلى الإيمان المسيحى، ورفض البعض الأخير تراثهم الأفريقى والإيمان المسيحى لأنهم وطنيون أفارقة محدثون يعيشون الحداثة لكن نيلسون مانديلا أعطى درسا فى الهوية نحتاج أن نتأمله بعمق.

•••

ثانيا: قضية الفكر الدينى: تعتبر جنوب أفريقيا أحد معاقل البروتستانتية بمذاهبها المختلفة، فالمواطنون البيض قدموا من هولندا واستوطنوا فيها، وهم يتبعون لاهوت (فقه) الإصلاح الذى ظهر فى القرون الوسطى فى أوروبا، لكن هناك مذهبا آخر إصلاحيا مهما هو المذهب الإنجليكانى (الأسقفى)، وهو مذهب كنيسة إنجلترا وديزموند توتو صديق مانديلا هو أحد قادته الكبار، لكن نيلسون مانديلا اختار مذهبا مختلفا عن الاثنين يدعى مذهب الـ«Methodist» وترجمة هذه الكلمة إلى العربية صعبا، فالترجمة الحرفية لها «المنهجية»، وهذا المذهب أسسه لاهوتى يدعى جون وسلى فى إنجلترا الذى نادى بعقيدة اختلف فيها مع المصلحين الآخرين مثل مارتن لوثر وجون كالفن هى عقيدة «القداسة الكاملة» لذلك أطلق تعبير «كنيسة نهضة القداسة» على الفرع الموجود بمصر وهذه العقيدة تنادى بأن الإنسان يمكن أن يصل إلى القداسة الكاملة أثناء حياته على الأرض.

وبسبب هذه الفكرة كان أتباع هذا المذهب أقلية بين المذاهب الأخرى، لكن مفهوم القداسة الكاملة استهوى مانديلا خاصة بعد لجوئه إلى العنف الدموى ثم دخوله إلى السجن، وأخذ يتأمل فى هذا الفكر الدينى وأعتقد أنه يمكن أن يجاهد ليصل إلى القداسة الكاملة، وقد شكلت هذه الفكرة وجدانه وهو مسجون فكان يحضر جميع العبادات داخل السجن سواء كانت العبادات أسقفية أو إنجيلية أو كاثوليكية أو إسلامية أو يهودية، وقد حدث تصالح بينه وبين ذاته وبينه وبين الله، وكانت النتيجة التصالح مع الآخر المختلف، لاشك أن المذاهب الدينية قادرة على تشكيل فكر الإنسان وصبغ حياته بصبغة مختلفة، لقد كان مارتن لوثر عنيفا مع المختلفين معه وكانت خطبه الدينية أحد العوامل فى تأجيج الكراهية ضد اليهود الألمان وقد قام جون كالفن مؤسس المذهب الإنجيلى المشيخى بالحكم على أحد المخالفين له فى الفكر بالإعدام حرقا لأنه هرطوقى (مبتدع)، كما كان الكاثوليك يفعلون ذلك بالمصلحين قبل نجاح إصلاحهم، صحيح اعتذر المصلحون اللاحقون لمارتن لوثر وجون كالفن عما فعلاه لكن جون وسلى كان متسامحا تماما مع مضطهديه وقتلة أتباعه وفى مناداته بالقداسة الكاملة كان يحاول تطبيقها على ذاته وبقسوة وقد جذب هذا الفكر نيلسون مانديلا وحاول تطبيقه عمليا فى غفرانه لكل من أساء إليه. لا شك ونحن ننظر حولنا فى الشرق الأوسط ونرى الدماء التى تسيل فى مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن ونسمع الخطاب الدينى الذى يحض على العنف ضد المخالفين، ونرى رجال دين يؤججون الكراهية فى قلوب البشر على الهواء مباشرة نشعر أننا نحتاج أن نتعلم درس التسامح من نيلسون مانديلا ونقّدر أهمية الفكر الدينى المُعتدل.

•••

ثالثا: قضية المواطنة: لقد كان نيلسون مانديلا نموذج فى تجسيد المواطنة الحقيقية بانتمائه الواضح لوطنه، وحبه لمواطنيه، فعندما وصل إلى الحكم عام 1994 أراد أن يبنى بلده لتصير دولة قوية تحقق لفقرائها والمستويات الدنيا بها نهضة اقتصادية وتطورا اجتماعيا وسياسيا ووعيا دينيا لذلك حرص فى كل خطوة على عدم جر البلاد إلى فتنة طائفية أو حرب أهلية من أى نوع ولأى سبب كان، وأراد أن يطبق ما آمن به فى شبابه وكافح من أجل تطبيقه، وهو النظام الاشتراكى الديمقراطى، لأن هذا النظام يحرص على الإنتاج مع العدالة الاجتماعية، والغطاء الصحى للجميع وحد أدنى للمعيشة، ورأى أنه لكى تستمر الدولة فى صعود مستمر ليس عليه أن يدمر أجهزتها القائمة من جيش وشرطة وقضاء بسبب أن الذين يقومون عليها من البيض العنصريين بل حاول أن يجعلهم جزءا من الدولة الجديدة، وأبقى على الذين ينتمون إليهم لأنهم كانوا هم المؤهلين لإدارة الدولة، وذلك فى الوقت الذى كان فيه السود غير قادرين على ذلك لأنهم غير مدربين وكذلك ترك الاقطاعيين الرأسماليين ولم يذبح البقرة ويوزعها على الأبناء، الذين جاعوا بعد ذبحها كما حدث فى بلادنا وكذلك لم يستجب مانديلا لدعاوى أقرب الناس إليه بالقصاص من الأغنياء البيض وهكذا نظر إلى الجميع. رغم الاختلافات العميقة بينهم على أنهم مواطنون.

ونحن نتطلع إلى انتخابات رئيس جمهورية جديد لمصر هل نحلم أن نردد بعد انتخابه قائلين نعم لقد ولد مانديلا عندنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved