حدث فى البرازيل

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الأحد 21 ديسمبر 2014 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

تمنيناها عندنا فظهرت فى البرازيل. ذلك أنه منذ قامت ثورة يناير ارتفعت الأصوات فى مصر منادية بتطبيق قواعد العدالة الانتقالية فشكلنا وزارة ولم تتحقق العدالة. وفى البرازيل فعلوها بغير وزارة. وإذ اكتفينا نحن باللافتة فإنهم امتلكوا شجاعة إعلان الحقيقة، وفى حين أننا كدنا ننسى الموضوع وشرعنا فى طى صفحته خصوصا بعدما تمت تبرئة مبارك وأعوانه من المسئولية عن قتل المتظاهرين، فإنهم هناك لم ينسوا، وإنما أصروا على تحرى الحقيقة وإعلانها على الملأ فى حفل رسمى أقيم بالعاصمة برازيليا فى العاشر من شهر ديسمبر الحالى. وتلك قصة مثيرة تستحق أن تروى.

فى ذلك اليوم تسلمت السيدة ديلما روسيف رئيسة البرازيل التقرير الذى أعدته لجنة الحقيقة عن ضحايا فترة حكم العسكر الذى استمر 21 عاما (فى الفترة ما بين عامى 1964 ــ 1985) وأعلنت فيه أن ضحايا تلك المرحلة تجاوز عددهم ثمانية آلاف شخص بين قتلى ومهجرين ومسجونين. وقد تم توثيق 434 حالة بين القتلى (كانت الرئيسة روسيف ممن تعرضوا للتعذيب خلال تلك الفترة، حيث قضت ثلاث سنوات فى السجن وجردت من حقوقها السياسية مدة 18 عاما). وحددت اللجنة أسماء 377 مسئولا من العسكريين والأمنيين ثبت لدى اللجنة أنهم مسئولون عن الانتهاكات التى حدثت فى تلك الفترة. ودعت إلى محاسبتهم عن جرائمهم، رغم أن حكام تلك الفترة أصدروا قانونا شملهم بالعفو، لتأمينهم فى المستقبل.

فى الحفل المهيب الذى أقيم لتسليم وإعلان تقرير اللجنة الوطنية للحقيقة الذى صدر فى ثلاثة آلاف صفحة، لم تستطع الرئيسة روسيف أن تحبس دموعها الغزيرة، وهى تلقى كلمتها التى استعادت فيها تجربة تلك المرحلة. وقد اضطرت لأن تتوقف عن الحديث عدة مرات لكى تمسح دموعها التى لم تتوقف طول الوقت، وهو ما سجلته كاميرات المصورين، الأمر الذى مكن اليوتيوب من نقل تفاصيل المشهد المؤثر إلى مختلف أنحاء العالم.

فى كلمتها قالت السيدة روسيف إن الهدف من تشكيل اللجنة لم يكن الانتقام من أى طرف. لكنها حين أصدرت قرارها فى هذا الصدد بعد انتخابها رئيسة عام 2010 أرادت أن تصالح البرازيل مع نفسها، لأن البرازيل تستحق الحقيقة، والذين ضحوا لأجل إقامة الديمقراطية، وفقدوا أعزاءهم وأصدقاءهم، وأولئك الذين لا يزالون يعانون من آثار تلك المرحلة الكئيبة، كلهم يستحقون الحقيقة، ولن تهدأ نفوس هؤلاء، ولن يستعيدوا شعورهم بالسكينة والطمأنينة والرحمة إلا بعد إعلان الحقيقة كاملة على الملأ.

أضافت رئيسة البرازيل قائلة إنه فى الوقت ذاته، فإن المصالحة الوطنية لا يمكن بناؤها إلا على أساس من الحقيقة، وعندها فقط يمكن منع أشباح الماضى المؤلم والمؤسف من البقاء مختبئة فى ظلال الصمت والنسيان.

اللحظات المثيرة والفريدة التى شهدتها العاصمة برازيليا حلت بعد أكثر من ثلاثين عاما من زوال حكم العسكر وعودة الحكم المدنى للبلاد. وهو ما فتح الأبواب لصعود نجم السيدة روسيف، التى كانت إحدى قيادات حزب العمال اليسارى. فعينت وزيرة ثم ترأست الحكومة ثم رشحت نفسها للرئاسة وتحقق لها الفوز فى عام 2010. وما إن شغلت المنصب حتى أصدرت قرارها بتشكيل اللجنة الوطنية للحقيقة ضمن الإجراءات الأخرى التى اتخذتها لتحقيق العدالة الانتقالية ومداواة الجراح التى خلفتها مرحلة حكم العسكر، ولم تندمل منذ ثلاثين عاما. ظلت اللجنة تعمل طوال ثلاثين شهرا إلى أن خلصت إلى تقريرها الذى سجل كل ما استطاعت ان تصل إليه اللجنة من انتهاكات تلك الفترة، واعتمدت فى ذلك بدرجة كبيرة على ما تم توثيقه خلال تلك الفترة من جانب الأهالى بالدرجة الأولى، إلى جانب الجهد الذى بذله المعنيون بحقوق الإنسان.

أعرف السؤال الذى يجول بخاطرك الآن وأرجح أنك تعرف إجابته. إذ من الطبيعى أن يتساءل المرء، وهو يتابع تلك التفاصيل، لماذا نجحوا وفشلنا؟ ــ ذلك أننا لم نحاسب أحدا عما حل بمصر من ظلم وخراب طوال ثلاثين سنة، وإنما برأناهم وكافأناهم على النحو الذى يعرفه الجميع، ليس ذلك فحسب وإنما فتحنا الأبواب لأبواقهم «وأزلامهم» لكى يطلوا علينا من جديد، ويخرجوا ألسنتهم لنا بصور شتى من خلال منابر بعضها أعرب عن الاعتذار والندم، لأن الشعب رفع صوته واستطالت رقبته، وقرر أن يثور عليهم.

أما الإجابة عن السؤال التى رجحت أنك تعرفها فهى أنهم نجحوا فى البرازيل لأنه كانت هناك إرادة سياسية جادة سعت إلى استجلاء الحقيقة وإعلانها على الناس احتراما لدور المناضلين وجبرا وتعويضا للذين ضحوا بأنفسهم، وهم يدافعون عن حلم المجتمع فى الحرية والكرامة والعدل.

أعتبر الإرادة السياسية هى السبب الأول والثانى إلى العاشر، وبعدها تأتى العوامل الأخرى التى تمثلت فى نزاهة اللجنة التى أنيطت بها المهمة وإصرارها على تحرى الحقيقة وتحدى ضغوط وإرهاب فلول الأنظمة المستبدة الذين استخدموا أبواقهم لتبرير سياساتهم والاحتجاج بالعفو الذى أعطى لهم فى السابق.

أعرف أن إجابتى عن السؤال ستولد أسئلة واستفهامات أخرى أراها محرجة وأتصور أنك تعرف إجابتها أيضا. ولذلك فإننى أتفق معك فيما تعرفه وأزعم أنه عند هذا الحد ينبغى أن يسكت الكلام المباح.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved