يوميات المفتش مِرر

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 21 ديسمبر 2019 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

القطع المعروضة في حد ذاتها ليست مبهرة، لكن التفاصيل التي تكمن وراءها هي التي تغرينا بتتبع أثر من اكتشفوها ومن قبلهم من خلفوها في مواضعها، ففي المتحف المصري بميدان التحرير توجد حاليا ولمدة شهرين أكثر من تسعين قطعة أثرية بقليل، تطلعنا على أعمال حفائر البعثات الفرنسية الخمسة وثلاثين المنتشرة في أنحاء مصر. ضمن المعروضات بعض برديات وادي الجرف التي تعد أهم اكتشاف أثري في القرن الواحد والعشرين بلا منازع. بدأت إحدى البعثات الفرنسية عملها في وادي الجرف منذ عام 2011 بقيادة بيير تاليه، وكشفت عن آثار أقدم ميناء بحري عرفه العالم في عهد الملك خوفو، إذ يسبق تاريخ إنشائه كل الموانئ الأخرى بحوالي ألف عام. أتخيل الموقع الذي لم أذهب إليه فعليا، أحاول أن أرسم معالمه في رأسي، وأنا أقف أمام البرديات المعروضة في المتحف. ميناء قديم على شاطئ البحر الأحمر، يقع جنوب الزعفرانة بحوالي 24 كيلومترا، كان نموذجا للموانئ الغير دائمة التي تستخدم على فترات متقطعة حسب الحاجة ومناسيب المياه، ظل نشطا لمدة قرن من الزمان ثم استبدل بميناء العين السخنة، الأقرب لممفيس أكبر العواصم الإدارية القديمة. أتخيل حركة العمال والبحارة وكيف كان يعج بهم المكان مثلما في أفلام يوسف شاهين، هل كانوا يغنون أثناء العمل مثلنا أم كانت هناك قواعد صارمة بأمر فرعون؟ هل كان صوتهم مرتفعا، يحدثون جلبة كزملائهم الحاليين، أم كان الكلام همسا كما هو في دير الأنبا بولا الذي يقع في الجوار؟
الفيروز والنحاس كانا ينقلان عبر هذا الميناء العتيق، فأماكن استخراجهما ليست ببعيدة، لكن ما اكتشفه أيضا فريق البحث في العام 2013، من خلال مجموعة رائعة من البرديات وجدوها عند مدخل مغارتين، هو تفاصيل تخص علاقة هذا الميناء ببناء هرم خوفو بالجيزة، إذ كان فريق العمل نفسه هو من ينقل كتل الحجر الجيري من جنوب طرة على الضفة الشرقية للنيل إلى هرم خوفو عبر النهر وقنواته وبركة "صناعية" تم حفرها عند الهرم الأكبر، وذلك خلال الأشهر التي تسمح بها مناسيب المياه بذلك في الفترة من مارس إلى أكتوبر، بواسطة مراكب حمولتها أكثر من سبعين طنا. البرديات التي يصل عددها إلى ألف قطعة، والمكتوبة بالهيراطيقية مع أجزاء مختصرة بالهيروغليفية، كانت مدفونة بين الكتل الحجرية التي تم استخدامها لإغلاق المغارتين بعد الانتهاء من العمل، فقد قام البحارة والعمال آنذاك بغلق موقع الميناء ومغاراته بكتل حجرية ضخمة، في غضون العام السابع والعشرين من حكم خوفو. وهذا التاريخ يرتبط بتوقف أعمال استخراج النحاس والفيروز من مناجم جنوب سيناء، وربما أيضا بانتهاء أعمال بناء الهرم الأكبر، كما يفيد الخبراء والمتخصصون.
***
أحسد أحيانا هؤلاء على قدرتهم على اقتفاء الأثر، على حب المغامرة والكشف الذي يجعلهم قادرين على تفسير نمط حياة السابقين ومن عاشوا قبلنا في الأماكن نفسها، لكن أتوا بأشياء مختلفة. البرديات التي وجدتها البعثة الفرنسية في وادي الجرف والتي ترجع للأسرة الرابعة، أي من أكثر من 4500 سنة، تضيف تفاصيل ممتعة، فهي أرشيف كامل لفريق العمال والبحارة الذين كانت تسند لهم مهام جسام طوال العام، وفقا للمواسم والظروف. جزء من البرديات يشبه كشوف الصادر والوارد الإدارية، فيحدد طبيعة المواد الغذائية والمؤن والأدوات التي يتم إمداد الموقع بها، سواء شهريا أو يوميا، من حبوب وغلال وخبز وبيرة وفواكه وتمر ولحوم ونسيج إلى ما غير ذلك. جداول دقيقة للغاية تشي بقوة النظام الإداري للدولة وقتها، وتؤكد على دور الأخ غير الشقيق للملك خوفو، ويدعى عنخ- حاف، الذي كان يشرف على العديد من المشروعات الملكية وعلى رأسها إنشاء الهرم الأكبر وإدارة مركز لوجيستي في منتصف الطريق بين محاجر طرة وهضبة الجيزة. ومن الجدير بالذكر أن تمثال هذا الأخير موجود بمتحف بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية.
الجزء الثاني من البرديات هو عبارة عن يوميات موظف أو مشرف عام على فريق مكون من مئتي شخص، منهم أربعين بحارا، يدعى المفتش مِرر، سجل بكل دقة حركة تنقلاته هو وفريقه. وهي ليست يوميات شخصية، لكن تقرير إداري مفصل لمن هو أعلى منه وظيفيا، وبرنامج إبحار يذكر فيه كل ما حدث لهم لحظة بلحظة، كأننا نتابع حياة مِرر الوظيفية لمدة خمسة أشهر، وهي المدة التي تغطيها البرديات المكتشفة. مِرر هو الذي قال في مذكراته تلك إنه "قضى يومه ورجاله في تحميل الأحجار من محاجر طرة"، ثم أضاف في ذات اليوم أنه "أوصلها لهرم خوفو".
***
هكذا فجأة ودون سابق إنذار وجدتني أغوص في تفاصيل سنة 26 أو 27 من حكم الملك خوفو بسبب قطع البردي التي لا أفهم منها حرفا، وهي اللعبة نفسها التي تغري بممارستها العديد من الأشياء المعروضة بالمتحف حتى يوم 18 فبراير، والتي لا أعرف عنها كغيري الكثير، فهي كما بينت في السابق ليست بالقطع المبهرة لكنها تصحبنا إلى أماكن لم نفكر فيها من قبل، عملت أو تعمل بها بعثات أثرية مثل قرية البويطي بالواحات البحرية أو مدينة تانيس بالقرب من صان الحجر بالشرقية أو مدينة كوم أبو بلو بغرب الدلتا بين القاهرة والإسكندرية. وهذا جزء من أهمية الحفريات. حفريات في الذاكرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved