التاريخ السياسى للإسلام: خلاصات تحليلية (٢)

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 21 ديسمبر 2019 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

فى المقالة الماضية شرحت خمسة من الخلاصات التحليلية الخاصة بمجموعة المقالات التى كتبتها فى «الشروق» عن سلسلة «التاريخ السياسى للإسلام»؛ حيث إن الإسلام قد جاء كدين مكمل وليس نافيا للعقائد والأديان والحضارات التى قبله، كما أن الإسلام قد جاء بقواعد عامة لإرساء قيم النظام الاجتماعى والاقتصادى والسياسى، لكنه لم يتناول أبدا تفاصيل أى نظام حكم سياسى أو اقتصادى تاركا تلك التفاصيل لظروف التاريخ والجغرافيا، وبناء عليه فإن نظام الخلافة ليس نظاما سياسيا بأمر إلهى، ولكنه نظام فرضته الضرورة السياسية والتاريخية، وأنه وباستثناء فترة الخلفاء الراشدين، فإن مبدأ الشورى لم يكن إلا استثناء عابرا فى التاريخ السياسى للمسلمين، والأصل كان نظام الوراثة والحكم القبلى القائم على العصبية، وأخيرا فإن المثالية السياسية والاجتماعية التى تحاول بعض السرديات التاريخية فرضها على المسلمين، لم تكن حقيقة، لأن التاريخ السياسى للإسلام ــ مثله مثل تاريخ باقى الأديان والحضارات والإنسانية بأسرها ــ كان تاريخا خالصا من الصراع على السلطة وفى سبيل ذلك تم إراقة الدماء وتدنيس المقدسات!
***
الخلاصة السادسة التى يمكن استنتاجها من قراءة التاريخ السياسى للإسلام، هو أن الممارسات المنسوبة للمسلمين هى ابنة سياقها التاريخى والجغرافى والسياسى! بعبارة أخرى فإن كل ما يتم الحكم عليه الآن باعتباره ممارسات غير حضارية أو غير إنسانية أو غير ديمقراطية منسوبة للمسلمين ونظام خلافتهم سواء المتعلقة بإراقة الدماء أو بالسبى أو بفرض الجزية أو باحتلال الأراضى.. إلخ يجب فهمها باعتبارها لغة تلك العصر وأن كل الممارسات سالفة الذكر لم تمارس فقط بواسطة خلفاء المسلمين ولكن تم ممارستها بواسطة الغالبية العظمى من النظم السياسية التى تواجدت فى هذه العصور!
هنا قد يقول قائل، إن الإسلام إذا لم يضف جديدا أو يتمايز عن غيره من نظم الحكم، والحقيقة أن هذا الكلام أيضا غير صحيح، فالرسالة الإسلامية كانت واضحة فى رفض الظلم وفى إقرار المساواة، وفى حرمة الدم، ولكن وبعد فترة قصيرة للغاية من وفاة الرسول، فقد انتصرت الممارسات السياسية للمسلمين على القيم التى أرثاها الإسلام فى رسالته النقية! لو أردنا أن نفهم تاريخ المسلمين، فلابد كما ذكرت فى المقالة السابقة التفرقة بين النص والفعل، وبين القيم والممارسات، وأخيرا التعامل مع تاريخ المسلمين باعتباره تاريخ بشر وليس تاريخ دين أو أنبياء أو رسل أو كتب مقدسة وهذا ما يعجز بعض كتاب وكهنة السردية التاريخية الإسلامية المثالية عن فهمه، فإصرار المجموعة الأخيرة ومنهم مؤسسات دينية كبيرة فى مصر والعالم العربى على إعادة إنتاج الرواية التاريخية للإسلام بعد تنقيحها من الشوائب والإصرار على عدم التمييز بين النص والفعل، وبين المقدس والمدنس، بين ما فرضه الدين، وما فرضته الضرورة فى هذا التاريخ، إنما يضرب فى الحقيقة الفرص العلمية لتقديم رواية منصفة للتاريخ الإسلامى ويساهم من حيث لا يدرى هؤلاء فى انتصار روايات شيطنة الإسلام والمسلمين!
الخلاصة السابعة، تتعلق بتلك المعضلة التاريخية فى كل الأديان، كيف تتعامل مع نص ثابت فى ظل واقع متغير؟ فى تاريخ المسيحية مثلا ظل النقل والفهم الحرفى هو المسيطر حتى القرون الوسطى، وباسم النص الثابت ارتكبت الكنيسة فى أوروبا كل الموبقات، حتى كانت الحركات الدينية والاجتماعية التحررية، التى حررت النص أولا من احتكار الكهنة، ثم قامت ثانيا بعملية «تطبيع» للنصوص مع الواقع والسياق السياسى والاجتماعى المتغير، ومن هنا كانت النهضة ومن هنا كان التنوير ومن هنا بدأت الديمقراطية!
الحقيقة أنه وحتى العصر العباسى الأول، فقد كانت هناك نهضة إسلامية ليست على مستوى العلوم والفنون ولكن أيضا على مستوى فهم النصوص وتطبيعها مع الواقع. فعل ذلك حتى الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم الأمويين وحتى العصر العباسى الأول، ثم بدأت تدريجيا حركة سياسية للتحايل على الفشل السياسى لبعض الخلفاء بالتظاهر بالتمسك بالدين، وفى سبيل ذلك تم التمسك بالفهم الحرفى تحت دعوى العودة إلى أصول الدين! الغريب أنه كما فعل الخليفة المتوكل ذلك، فقد فعله بعده بقرون طويلة الخليفة عبدالحميد الثانى! الإصرار على التمسك بالشكل والنقل للتغطية على الفشل السياسى، ولم يكن نتيجة كل ذلك قطعا سوى المزيد من الفشل السياسى والحضارى معا!
المثير للانتباه، أنه وحتى بعد انتهاء عصر الخلافة، لم يقف الكثير من المسلمين وعلمائهم عند دروس التاريخ، وظل التمسك بالنقل على حساب العقل، والتشبث بالفهم الحرفى على حساب التطبيع مع الواقع هو السائد! هذه المعضلة مازالت تقف أمام علماء المسلمين وعادة ما يختارون الأسهل، مرحبا بالنقل، مرحبا بالفهم النصى حتى لو تعارض مع الواقع، ومن يتحدى أو يتساءل أو يقدم محاولة لحل هذه المعضلة يتعرض للتكفير والتهديد، ولا داعى لذكر العديد من الأمثلة القريب منها والبعيد!
ما لا يفهمه علماء عبادة النصوص وغض النظر عن العقل ورفض تكييف فهم النص فى سياق الزمن والجغرافيا، أن هذا الموقف المتحجر منذ نهاية العصر العباسى الأول لم يؤد سوى إلى المزيد من غربة المسلمين عن دينهم، والمزيد من التخلف الحضارى؛ حيث وأد الإبداع والتفكير والاجتهاد واحتكار فهم النصوص!
الحقيقة أن معضلة العقل والنقل، الواقع والنص، ساهمت أيضا فى تحويل الدين الإسلامى إلى أداة فى يد الحكم السلطوى، فحلال السلطة حلال العلماء، وحرام السلطة حرام العلماء! يمكن للمسلم الفطن صاحب الضمير إلقاء نظرة على ترسانة الفتاوى الإسلامية ليجد أن أغلب ما يتعلق منها بالأبعاد الاجتماعية والسياسية ليس فقط منفصلا عن الواقع، ولكنه حتى منافى لقيم الإسلام، لأن معظم هذه الفتاوى لم تكن إلا حجر أساس الاستبداد والظلم والاضطهاد!
***
الخلاصة الثامنة تتعلق بالإسهامات الحضارية للإسلام. والحقيقة أن بعض الكتابات المتعصبة ضد الإسلام تتحدث دائما عنه باعتباره دينا صحراويا غارقا فى القبلية والعصبية والجهل، معارضا للتقدم والنهضة! بمراجعة تاريخ الإسلام، وبمراجعة تعريف الحضارة بحسب قاموس كامبريدج باعتبارها نظاما اجتماعيا وثقافيا وسياسيا له منتجات تعلم البشرية وتساهم فى نهضتها فى فترة تاريخية معينة، فإن الإسلام قطعا ساهم فى الحضارة البشرية، فى العلوم الاجتماعية والإنسانيات والعلوم التطبيقية والفنون والعمارة وغيرها! الأمر لم يكن قاصرا فقط على الدولة العباسية الأولى، ولكنه شمل بعض الفترات أيضا من الدولة العباسية الثانية ومن الدولة العثمانية، بل ومن حضارات الإسلام الآسيوى أيضا! صحيح أن الحضارة الإسلامية الآن بعافية لأسباب كثيرة يصعب حصرها فى هذه السطور المحدودة، لكن هذا لا ينفى إطلاقا أن الحضارة الإسلامية حقيقة وليست أسطورة!
فى هذا السياق يرى البعض أيضا وخصوصا ممن يعيشون فى منطقة الشرق الأوسط، أن الإسلام ليس أكثر من دين غاز، وأن أصولهم العرقية هى أصول غير عربية ولكن اغتصب العرب المسلمون مناطقهم الأصلية وحولوهم قسرا إلى مواطنين عرب وهم ليسوا كذلك!
الحقيقة أن الرد على هذا الكلام له أبعاد كثيرة، فمن ناحية البعد العرقى والجينى البحت، فإن ادعاء أى جماعة بشرية بأنها «عنصر نقى» هو محض خيال بحت ولا يستطيع هذا الادعاء فى الحقيقة أن يصمد أمام أى دراسات للحمض النووى أو التاريخ! فتاريخ البشر هو تاريخ هجرة وحركة دائمة بعضها كان سلميا، وأكثرها كان دمويا وعنيفا، العرب والمسلمون لم يكونوا استثناء، كما الأوروبيون والصليبيون عامة وكما الآسيويون وغيرهم، تحركوا شرقا وغربا، وبنوا حضارتهم بالغزو تارة وبالتجارة تارة، وبالدعوة تارة أخرى! هذه الحقيقة قطعا لا تعنى الموافقة أو تبرير وأد الاختلاف والتنوع أو محو هويات الأقليات (العددية) تحت دعوى غلبة الأكثرية، لكنه يعنى أن المنطقة المسماة بالشرق الأوسط حاليا يتنافس فيها العرب والفرس والأتراك والأكراد وغيرهم (عرقيا) والمسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم (دينيا) على الموارد والسيطرة والنفوذ، وتاريخيا، فقد تمكن العرب أحيانا والفرس أحيانا والأتراك فى أحيان أخرى من تكوين حضارة كان عمادها الأساسى هو الإسلام بالمعنى الحضارى كمظلة لكل الشعوب التى سكنت المنطقة والتى يجب أن تتمتع بكل الحقوق والحريات مثلها مثل المسلمون، وهذا هو الفارق الحقيقى بين من يطرح الإسلام باعتباره أداة للهيمنة واحتكار السلطة واضطهاد الأقليات تحت دعوى الأكثرية، وبين من يطرح الإسلام بإسهاماته الحضارية ولغته العربية باعتباره مظلة أوسع تشمل الجميع!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved