الغرامات وإعادة توزيع الثروات

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 21 ديسمبر 2020 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

السيناريوهات القاتمة لإعادة توزيع الثروات بعد سنوات من تراكمها على نحو متحيز، كانت دائما هى الغالبة على رؤى الاقتصاديين منذ نشأة علم الاقتصاد. رأى «مالتس» أن الكوارث الطبيعية والبشرية تعيد التوازن بين الحاجات المتعددة اللامتناهية الناشئة عن نمو سكانى بمتوالية هندسية، وبين الموارد المحدودة التى لا تنمو إلا بمتوالية عددية. بعده بعقود جاء الاقتصادى الفرنسى «توماس بيكيتى» ليضع فى كتابه الشهير «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين» منهجا تاريخيا كميا للبحث فى التفاوت بين الثروات ومعدلات النمو، مؤكدا على أن الخلل المستمر بين تراكم ثمار النمو، وتراكم الثروات الناتج عن سوء التوزيع لم يضبطه على مدار التاريخ سوى أحداث كبرى هى فى الغالب فترات الحروب، مع التركيز على الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ولأن النظام الرأسمالى يسمح بتراكم الثروات دون سقوف فى عدد محدود من المؤسسات والأفراد، ولأنه يظل النظام الأكثر قبولا وانتشارا على الرغم من حمله لعوامل هدمه على المدى الطويل وفقا لكارل ماركس، فقد استطاعت النظم الرأسمالية أن تطوّر آلية دفاعية للحد من تراكم الثروات وإعادة توزيعها على نحو يحقق شيئا من العدالة، ويسمح باستمرار المنظومة دون حاجة إلى كوارث واضطرابات. ولعل من أبرز الأدوات التى طوّرتها الحكومات فى هذا السياق هى الغرامات وقرارات التقسيم. الإمبراطوريات الاقتصادية تمتلك أذرعا طولى شرقا وغربا، وتقتحم الأسواق على اختلاف نظمها وتشريعاتها، ومن المؤكد أنها سوف تسقط فى اختبار أو أكثر لمواكبة تلك التشريعات فى مكان ما.
***
كان «جون روكفلر» (مؤسس كبرى إمبراطوريات التنقيب عن البترول «ستاندرد أويل») دليلا حيا ومبكرا على سطوة ضريبة الحجم التى تفرضها الحكومات. فقد اتسعت مؤسسته بصورة مضطردة حتى وقعت فريسة سائغة لقوانين منع الاحتكار فى الولايات المتحدة الأمريكية وفى مقدمتها قانون شرمان الصادر عام 1890 وكذلك قيام المدعى العام الأمريكى بإيعاز من الرئيس الأمريكى تيودور روزفلت عام 1902 برفع دعوى قضائية لتفكيك شركة «ستاندرد أويل» وتم الحكم بالتفكيك عام 1911، نتج عن ذلك تقسيم تلك المؤسسة العظمى إلى ثلاث شركات، شكّلت مع غيرها فيما بعد ما عرف بكارتل الأخوات السبع، كما نتج عن الدعاوى والملاحقات القضائية تغريم «روكفلر» بخسائر كبيرة ساعدت على إعادة توزيع ثرواته المتراكمة بدرجة ما.
اليوم زادت حدة ووتيرة الملاحقات القضائية والنيابية للشركات الكبرى بأكثر من مبرر. الملاحقات الحكومية لم تعد قاصرة على مخالفات قوانين الاحتكار وحماية المنافسة، بل امتدت لتشمل اختراق أنظمة الأمان السيبرانى، ومخالفة قوانين وتشريعات النقل، ومخالفة تشريعات الاتصالات، ومخالفة قوانين حماية الأطفال ومنع العمل القسرى... إلى غير ذلك من أسباب لإعادة التوازن إلى الأسواق بأدوات اليد القاهرة الظاهرة للسلطات، وليس اليد الخفية التى تحدّث عنها الاقتصادى الأشهر «آدم سميث» فى كتابه ثروة الأمم المؤسس لعلم الاقتصاد الحديث.
بالأمس القريب تناولت وسائل الإعلام مقاومة شرسة من شركتى «كوكاكولا» و«نايكى» العابرتين للقارات لقانون جديد يفرض غرامات قاسية على المنتجات الأمريكية التى نشأت فى منطقة «شينجيانغ» الصينية التى تسمح بعمالة الأطفال. التشريع الذى يبدو فى ظاهره عملا إنسانيا محضا يشف فى جوهره عن صراع تجارى محتدم بين المنتجات التى غزت الأسواق الأمريكية رخيصة الثمن، وبين المنتج الأمريكى الذى يتكبّد أجورا مرتفعة نسبيا للعمالة فى دولة الرفاهة. أية محاولة لفرض رسوم تجارية وموانع استيراد كما حدث من قبل مع منتجات الحديد والألومنيوم سوف تشعل حروبا تجارية جديدة، وتثير غضبا شعبيا أمريكيا لأن المستهلك الصناعى والمستهلك النهائى كلاهما يفضل المنتج الرخيص أيا كان منشأه. هنا يأتى دور التشريعات المحتمية بحقوق الإنسان ومبادئ التنمية المستدامة وحقوق المنافسة وغيرها لإعادة التوازن بصفة عاجلة وقسرية للأسواق، التى صارت دورتها الاقتصادية قصيرة نسبيا، بعد أن تمتص السيولة منها شركات صغيرة ومتوسطة، سرعان ما يتم الاستحواذ عليها أو دمجها أو حتى تصفيتها بمجرد أن ينتفى الغرض من استمرارها، قبل أن تنتبه السلطات القضائية والتشريعية إلى مخاطرها.
شركات النقل التشاركى والنقل الذكى خاضت بدورها معارك طاحنة فى الشرق والغرب. تفكيك تلك الشركات صار مطلبا لرابطات سائقى السيارات الأجرة فى معظم البلدان، نظرا لتحملهم أعباءً ضريبية لا تتحملها تلك الشركات المنافسة. الحل فى عدد من الدول كان بالحظر الفورى لنشاط تلك الشركات، وكان فى بلدان أخرى بتكبيدها تكاليف وغرامات كبيرة يصعب معها الاستمرار فى السوق. هنا تبدأ تلك الشركات فى التحوّر السريع. تقوم بالاستحواذ على شركات التكنولوجيا فى مجال النقل الذكى، وتلجأ إلى ابتكار سيارات ذاتية القيادة ثم بيعها لشركات أخرى، تعمد إلى الانسحاب التدريجى من بعض الأسواق والاندماج فى شركات محلية بأسواق أخرى... كل تلك الحيل أصبحت الشغل الشاغل لمعظم المؤسسات والشركات الكبرى التى باتت تدفع ضريبة استثنائية للنجاح والحجم غرضها (غير المعلن) هو إعادة التوازن إلى الأسواق، والحد من التراكم السريع المختل للثروات، لكن الغرض المعلن عادة ما يكون: احترام القوانين واللوائح والحقوق.
***
منذ أيام بدا أن مصير موقع التواصل الاجتماعى الأشهر «فيسبوك» لن يختلف كثيرا عن مصير شركات «ستاندرد أويل» و«مايكروسوفت» و«كوكاكولا»... وأن عملاق التواصل الاجتماعى يواجه احتمالات التقسيم وغرامات موجعة ناتجة عن ممارسات احتكارية، وعن تفضيل عمالة الأجانب على حد زعم أصحاب الدعاوى. دعاوى الانقضاض على «مارك زوكيربرج» مؤسس فيسبوك تتحرّك بأذرع حكومية، وتتبناها ولايات مختلفة. فقد رفعت عشرات الولايات والحكومة الفيدرالية دعاوى قضائية مزدوجة لمكافحة الاحتكار ضد شركة فيسبوك، زاعمة أنها قد أساءت استغلال هيمنتها فى السوق الرقمية، وانخرطت فى سلوك مضاد للمنافسة، ووفقا لموقع سى إن إن عربية جاء ما نصه: «تسعى لجنة التجارة الفيدرالية على وجه الخصوص إلى إصدار أمر قضائى دائم فى المحكمة الفيدرالية يمكن أن يطلب من الشركة، من بين أمور أخرى، سحب الأصول، بما فى ذلك انستجرام وواتسآب، مما يؤدى إلى تفكيك فيسبوك بشكل فعال كما نعرفه».
تلك إذن قواعد جديدة للعبة الاستثمار فى دول تنعم بالحرية الاقتصادية، وتتبنى مبدأ «دعه يعمل دعه يمر». الحرية لا تعنى الفوضى، ولا تعنى أن يستمر الخلل فى توزيع عوائد الاستثمار على نحو يهدد السلم الاجتماعى، ويرفع معدلات الفقر بوتيرة غير مقبولة. اليد الخفية للحكومات تحوّلت إلى يد ظاهرة عنيفة فى كثير من الحالات. الدورات الاقتصادية السريعة لم تعد تمهل الحكومات زمنا كافيا للتأثير فى قوى السوق عن بعد. كذلك فإن المرونة العالية التى تتمتع بها الشركات الحديثة، والتغيير المستمر فى جلدها جعلها تنجو سريعا من أية ملاحقات لو لم تكن قبضة الدولة حاضرة سريعة. فعلى سبيل المثال ظلت مصافى «روكفلر» تسيطر على الأسواق وتخرج من المنافسة عددا من الشركات الصغيرة والمتوسطة على مدار سنوات قبل أن يتم تفكيكها. تلك الرفاهية لم تعد متاحة للشركات العملاقة اليوم، كونها تتمدد بسرعة فائقة، وتغزو الأسواق عابرة للحدود حتى تلتهم السيولة بمعدلات غير مسبوقة، وتتمكّن من الاستمرار باستخدام حيل قانونية، يتقنها محاموها الذين يحصدون ملايين الدولارات سنويا، مقابل إتقان مهاراتهم الفائقة فى هزيمة أغلب مؤسسات الدولة والهروب من ملاحقتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved