اعتذار متأخر للشيخ الطبلاوى
سمير عمر
آخر تحديث:
الأحد 21 ديسمبر 2025 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
فى مطلع الثمانينيات كنتُ صبيًّا حفظ ما تيسّر من القرآن، وأجاد بعض أحكام تلاوته، وكان الشيخ الطبلاوى هو القارئ الأشهر بعد رحيل كبار المقرئين، لكننى، ولسبب لم أدركه آنذاك، لم أكن من محبّيه؛ فقد كان حضوره الطاغى، بفعل انتشار أشرطة الكاسيت التى ترسل صوته من داخل المحلات وسيارات الميكروباص، خاصة فى ساعات الصباح الأولى، يقف حائلًا بينى وبين طريقته فى التلاوة.
كنتُ فى هذه الفترة المهمة فى تشكيل الوعى وصياغة الوجدان مغرمًا بترتيل الشيخ الحصرى صاحب المصحف المعلِّم، وهائمًا بتجويد الشيخين مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد، أما الشيخ محمد رفعت، فقد كان صوته القادم من جهاز الراديو، خاصة فى شهر رمضان المبارك، بالنسبة لى ولوجًا لطيفًا فى عوالم نورانية رحبة.
فى مطلع التسعينيات كنتُ مسئولًا عن الإذاعة المدرسية فى المرحلة الثانوية، وكنتُ بين الحين والآخر أقرأ ما تيسّر من القرآن فى طابور الصباح، وكان مدرس اللغة العربية والتربية الدينية، المسئول عن متابعة الإذاعة المدرسية معى، من المغرمين بطريقة تلاوة الشيخ الطبلاوى، وقد طلب منى ذات مرة، وبعد أن انتهيت من تلاوة ما تيسّر من سورة الدخان- وكانت ضمن مقرر الصف الأول الثانوى فى التربية الدينية- أن أكمل القراءة، فأكملت، وبعد أن انتهيت قال لى: لماذا لا تقرأ بطريقة الشيخ الطبلاوى؟
فقلت: أنا لا أحب طريقته فى تلاوة القرآن.
كان السؤال مفاجئًا، فكانت إجابتى عفوية.
لم يصدّق الرجل ما سمعه، فقال: ومين إنت عشان ما تعجبكش طريقة الطبلاوى فى التلاوة؟
مضى هذا اليوم وأنا أسأل نفسى: لماذا لا أحب الطبلاوى؟
صحيح، أنا لا أحب الطبلاوى؛ فهو فى ذاكرتى مثل أحمد عدوية والشيخ كشك والأغانى الهابطة التى انتشرت فى الثمانينيات، وكانت تملأ الدنيا عبر أجهزة الكاسيت.
كان شىء داخلى يرفض هذه التركيبة التى فرضتها أذواق سائقى سيارات الأجرة، وأصحاب محلات العصير ومحال البقالة، وتجار الموسكى والعتبة.
احتاج الأمر إلى بضع سنوات حتى تخلّصت من التأثير السلبى لهذه الظاهرة، وتمكنت من سماع تلاوة القرآن بصوت الشيخ الطبلاوى.
لا أقول إننى أصبحت فى هذه السنوات من المغرمين بطريقة تلاوة الشيخ الطبلاوى، إذ بقيت أصوات الحصرى وعبد الباسط ومصطفى إسماعيل والشيخ رفعت الأقرب إلى قلبى، لكننى بتُّ قادرًا على سماع القرآن بصوت الطبلاوى دون أن تتداعى إلى مخيلتى تلك الصور القديمة التى حرمتنى من متعة سماع القرآن ممن وُصف بصاحب «النغمة المستحيلة» و«آخر سلاطين دولة التلاوة»، وبعدها صرتُ من مريديه ومحبى صوته وطريقته.
قبل نحو سبع سنوات كنتُ أُعدّ حلقة من برنامجى عن كبار دولة التلاوة، وقررت أن يكون ضيفى هو الشيخ الطبلاوى، لكن للأسف كان مريضًا ساعة تسجيل الحلقة، فاستعضت عنه بالشيخ أحمد نعينع، وقد كان الرجل أمينًا فى عرضه، حافظًا لكل رمز من رموز التلاوة، ومن بينهم الشيخ الطبلاوى قدره ومكانته وتأثيره.
عرفتُ، فيما عرفتُ عن الشيخ الطبلاوى، علاقته بالمطرب الشعبى أحمد عدوية، وكيف أنه التقاه فى أحد الاستوديوهات حيث كان يقوم بتسجيل بعض آيات القرآن، وكان عدوية قد قدّم للمنتج أغنية «السح الدح امبو»، فرفضها مستشار الشركة الشاعر مأمون الشناوي، فما كان من المنتج إلا أن أخبر عدوية بقرار الرفض، وقد تعاطف الشيخ الطبلاوى مع المطرب الشاب، فطيّب خاطره وقال فى حقه كلامًا طيبًا، مما ساهم فى عدول المنتج عن قراره، وبقى عدوية يحمل قدرًا كبيرًا من الود والتقدير للشيخ الطبلاوى بسبب هذا الموقف.
إن مسيرة الشيخ الطبلاوى تُعد نموذجًا فريدًا لفكرة الصعود الدرامي؛ فقد وُلد فى «ميت عقبة» لأسرة فقيرة، وقد اكتشفه شيخه الأول الشيخ «عبيد غنيم الزهرى، فقدّمه لتلاوة القرآن فى المآتم وليالى رمضان.
رفض الطبلاوى أن يكون مجرد «فقيه» يقرأ فى المآتم، فالتحق بمعهد القراءات التابع للأزهر الشريف، بل واستعان بمدرس خصوصى خبير فى أحكام التلاوة. خاض الطبلاوى عدة معارك لإثبات وجوده بين الكبار، وتقدّم للالتحاق بالإذاعة عشر مرات، بدأت عام 1960، وكان فى كل مرة ترفضه اللجنة؛ لأنه، رغم قوة صوته وحلاوته، لا يجيد القراءة وفقًا للمقامات الموسيقية، حتى أقنع الشيخ الغزالى أعضاء اللجنة بأنه يمتلك صوتًا متفردًا وطريقة خاصة، فكان القبول عام 1970.
طاف الشيخ الطبلاوى شتّى بلدان العالم قارئًا للقرآن، وكان مُفَضَّلًا لدى العديد من الملوك والرؤساء، ورفض التعيين فى البرلمان فى عهد الرئيس السادات لأنها «مش شغلته».
رحم الله مولانا الشيخ الطبلاوى، الذى أرجو أن يقبل اعتذارى المتأخر.