شروخ الاستبداد تزداد اتساعًا

معتز بالله عبد الفتاح
معتز بالله عبد الفتاح

آخر تحديث: السبت 22 يناير 2011 - 9:29 ص بتوقيت القاهرة

منذ عامين تقريبا، وجدتنى أكتب مقالا عن المحددات الخمسة لعملية التحول الديمقراطى فى منطقتنا العربية. وكان الكلام عن متغيرات رمزت إليها بالكلمات التالية: بيولوجى وجيولوجى وتكنولوجى وثيولوجى وأيديولوجى باعتبار أنها ترمز لشروخ خمسة تحدث بشكل بطىء على مدى زمنى طويل لتنال من تماسك بنية الاستبداد العربى. وها أنا أعود لمناقشة التغيرات الحادثة فى هذه الشروخ بعد عامين.

فأولا هناك تحديات جيلية تواجه السلطة السياسية لأسباب طبيعية بيولوجية حيث إن ثلثى مجتمعاتنا العربية من الشباب الذين يجد ربعهم أنفسهم فى حالة بطالة اقتصادية وانسداد أفق سياسى. وثانيا، فإن التحكم فى المصادر الجيولوجية (مثل النفط والغاز وقناة السويس ومياه النيل) وحده لم يعد كافيا لشراء الشرعية السياسية، لأن النخب العربية فشلت بوضوح فى ترجمة عوائدها الريعية إلى تنمية بشرية متوازنة. وثالثا، فإن التكنولوجيا خلقت فضاء عاما غير حكومى يزداد اتساعا من خلال مواقع الإنترنت والتليفونات والفضائيات بما يسهل نقل المعلومات والأفكار بل وحتى الشائعات بسرعة فائقة. رابعا، فإن تغيرات تحدث فى الخطاب الدينى سواء المراجعات الدينية التى قامت بها الجماعات الإسلامية أو شيوع الخطاب السلفى والخطاب الدينى منزوع السياسة بما يجعل الشباب المتدين الآن يختلف فى قيمهم عن آبائهم من قبل. وهناك خامسا، تراجع الأيديولوجية غير الديمقراطية لاسيما القومية العربية فى صيغتها الناصرية والبعثية التى كانت تعلى من قضية الوحدة على حساب قضية الديمقراطية، فلا حققت لا هذا ولا ذاك.

إنها تطورات خمسة على أصعدة خمسة لم تزل تتفاعل وستستمر فى التفاعل لتنتج لنا واقعا مختلفا عما اعتدناه فى الخمسين عاما الأخيرة.

أولا: التحدى البيولوجى للسلطة

لأسباب بيولوجية طبيعية يتحول هرم السكان فى منطقتنا العربية لنجد أنفسنا أمام أجيال جديدة أقل قبولا للاستبداد وإن كانوا فى ذات الوقت أقل استعدادا للمشاركة السياسية عبر الوسائل الرسمية مثل الانتخابات والانضمام للأحزاب، فأقل من واحد بالمائة من الشباب العربى (بين 18و29 عاما) منخرط فى العمل الحزبى الرسمى. وهناك تحد اقتصادى ــ اجتماعى خطير وهو أن ثلثى سكان المنطقة العربية هم من الشباب دون سن الثلاثين. وهذا الرقم يجعل نسبة البطالة بين الشباب نحو الربع، وعليه فإن نسبة المتعطلين عن العمل تحت سن الثلاثين عاما فى حدود الـ90 بالمائة كما يتأثر عدد أكبر بالبطالة الجزئية، وإن كانت تشير الدلائل إلى أن البطالة قد تراجعت نسبيا خلال العقدين الأخيرين من 32 بالمائة إلى حوالى 25 بالمائة، لكنها أخذت فى الارتفاع مرة أخرى فى آخرى عامين. هؤلاء الشباب هم وقود التمرد فى معظم المجتمعات التى شهدت انتفاضات شعبية سواء فى أوروبا الشرقية أو كوريا أو المكسيك أو البرازيل، وأخيرا فى تونس. هذا التحدى قائم بشدة وسيظل يؤرق القائمين على الحكم فى مجتمعاتنا العربية.


ثانيا: جيولوجيا الشرعية الريعية

لقد وجدت العديد من الدراسات أن اعتماد الدولة بشكل أساسى على تصدير سلع أولية مثل النفط والغاز والاعتماد على ريع ممرات مائية مثل قناة السويس والمعونات والمنح والقروض الخارجية له تأثير سلبى على احتمالات التحول الديمقراطى، نظرا لاحتكار الحكومات لهذه المداخيل الرأسمالية. وهذا التأثير السلبى له ثلاث آليات على الأقل. فهناك تأثير شراء النخب الحاكمة لشرعيتها عن طريق زيادة الإنفاق الاجتماعى ودعم الخدمات الأساسية من صحة وتعليم أو من أجل العلاوات الانتقائية لضرب أى تحالف محتمل للعمال أو الفلاحين أو الطلاب، وهو النمط الذى يطلق عليه اسم «دولة البقشيش».
وهناك ثانيا تأثير القمع الناتج عن توافر مداخيل اقتصادية ضخمة تسمح لحكومات الدول المعتمدة على السلع الأولية بأن تبنى آلة أمنية قوية لا تقوى قوى المعارضة على تجنبها أو الوقوف فى وجهها. وهناك ثالثا ضعف الطبقة الوسطى لأنها عادة تكون طبقة «موظفين» يعملون لدى الدولة أكثر من تشكيلهم طبقة مستقلة عنها تسعى لأن تقوم بدور جماعة ضغط ضخمة عليها.

بعبارة أخرى فإن هذه المداخيل توفر للحكومات إمكانية «الذهب» لشراء الشرعية و«العصا» لقهر قوى المعارضة. وفى الحالتين يكون هناك ما يشبه العقد الاجتماعى غير المكتوب يتحول بموجبه الأفراد إلى رعايا اقتصاديين فوق العادة بلا حقوق سياسية تقريبا. فتضمن لهم الدولة السلع الرخيصة والوظيفة المناسبة والتعليم والعلاج المجانيين مقابل أن تتراجع جميع المطالب السياسية بالديمقراطية والحكم الرشيد. ويستمر العقد ما تراضى الطرفان عليه.

بيد أن منطقتنا العربية تشهد منذ مطلع هذه الألفية عجزا واضحا فى قدرة الدول على الوفاء بالتزاماتها الصحية والتعليمية والمرورية والإسكانية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وهو ما يعبر عن نفسه صراحة فى صورة وقفات احتجاجية واعتصامات شبه يومية فى العديد من الدول، وإن ظلت معظم الدولة الخليجية بعيد نسبيا عن هذه الظاهرة.


ثالثا: ثيولوجيا الإسلام الديمقراطى

«فزاعة الجماعات الإسلامية» هو التوصيف الإعلامى لاستخدام النخبة الحاكمة فى بلاد العرب لخوف الغرب من وصول جماعات إسلامية إلى سدة الحكم فى الدول العربية.

بيد أن تغيرا حادثا فى تعاطى التيار الإسلامى غير العنيف، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين مع النظم السياسية ومع النخبة الإسلامية المثقفة جعلت منهم طرفا قابلا، على الأقل على المستوى اللفظى، بمؤسسات الديمقراطية وإجراءاتها وإن كانوا يتحفظون على واحدة من أهم ملامحها فى الغرب وهو العلمانية. فرغما عن أن كليهما غربى فإنهم قبلوا بآليات الديمقراطية ورفضوا العلمانية باعتبارها إطارا معرفيا وأخلاقيا يتناقض مع المرجعية الإسلامية.

وما يبعث على التفاؤل الحذر وجود تواتر فى أعداد المفكرين الإسلاميين الذين أعطوا لقيم الديمقراطية وآلياتها صك الغفران. كما أن تجربة حزب العدالة والتنمية فى تركيا تعطى مثالا قابلا للتعلم منه لدى بعض القوى المحافظة فى المنطقة العربية.

ولكن يأتى التحدى الذى يواجه مجتمعاتنا من أن خطابا إسلاميا منزوع السياسة آخذ فى التزايد بما يصرف قطاعا من الشباب عن الاهتمام بدورهم السياسى، وكأنهم ضمنا يوقفون ضد التأثير الإيجابى للتحول فى الخطاب الدينى المشار إليه.


رابعا: تكنولوجيا الفضاء العام

إن مفهوم الفضاء العام يشير إلى تلك المساحة الذهنية الرحبة التى لا تسيطر عليها المؤسسات الحكومية فيتمكن فيها المرء من التأمل والتدبر والمداولة مع أقرانه. هى مساحة للتفكير فى اللامفكر فيه سياسيا ودينيا.

إن المنطقة العربية شهدت اتساعا لهذه المساحة من الفضاء العام. والعامل الدافع لهذا الفضاء الآخذ فى الاتساع هو تكنولوجيا الاتصالات التى وفرت للمواطن العربى القنوات الفضائية والمواقع التفاعلية على الإنترنت. فقد بلغ عدد القنوات الفضائية العربية 700 قناة يتم بثها بواسطة عدد من الأقمار، و70% من هذه القنوات غير تابع رسميا لحكومات عربية.

كما وفرت شبكة الإنترنت فرصة ممتازة لخلق فضاء عام أرحب للتفاعل بين المواطنين لاسيما الشباب منهم. وبالعودة إلى مواقع الحوار هناك نشاط فكرى حى شديد النقد للأوضاع القائمة سياسيا واقتصاديا وهى مقدمة ضرورية لمنع احتكار المعلومة والمعرفة التى تمارسها الدولة التسلطية.

إن الفضاء العام ولد واتسع وهو آخذ فى الاتساع ورغم أن ــ فقط ــ ثلث المواطنين العرب (فوق سنة 18) يملكون القدرة على الوصول إلى الفضائيات وأن نصف هذه النسبة فقط لديها القدرة على الوصول إلى شبكة الإنترنت فإن المستقبل سيشهد زيادة كمية وكيفية ستشكل حتما شرخا جديدا فى بنية الاستبداد.


خامسا: تراجع الأيديولوجية الشعبوية

معظم القوى السياسية فى المنطقة العربية تدعى وصلا بالديمقراطية وتجعلها جزءا لا يتجزأ من برامجها الانتخابية، وهذا تطور كبير مقارنة بما كان عليه الحال فى أعقاب الاستقلال مباشرة.

لقد كان المأزق الأكبر الذى واجه مجتمعنا هو أنه حكم من قبل قيادات كانت مستعدة دائما لتحقيق أهداف جذابة بشرط التضحية بالديمقراطية سواء انصرف هذا الحكم إلى القوميين العرب (وعلى رأسهم الناصريين والبعثيين) أو الإسلاميين.

فقد كان دائما الطرح السائد فى ظل هذه الصيغة الأيديولوجية هو «إما/أو» فإما الحقوق المدنية والسياسية أو الوحدة والاستقلال والتنمية الاقتصادية. وكان يغلف هذا، مع الأسف الشديد، الممارسات القمعية والفساد وتهميش المعارضين وإقصاؤهم عن الحياة العامة.

إذن لم تزل منطقتنا العربية فى حالة صراع داخلى بين قوى التغير والتغيير وبين قوى الثبات والاستمرار، وإن كان من الواضح أن الكثير يعتمل تحت السطح السياسى. وقد أضافت الانتفاضة التونسية بديلا لم يكن قائما من قبل فى الحياة السياسية العربية. وأسباب العدوى قائمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved