الأرجح أنها إسرائيـل 1

أحمد كمال أبو المجد
أحمد كمال أبو المجد

آخر تحديث: السبت 22 يناير 2011 - 9:54 ص بتوقيت القاهرة

 ترددت طويلا وسط مشاعر الحزن الغامر والقلق المشروع قبل أن أمسك القلم لمشاركة أكثر الكتاب والمحللين فى مصر فيما قدموه من محاولات جادة ومشكورة سعيا لتحديد الجهة أو الجهات المسئولة عن الجريمة الإرهابية المجنونة التى وقعت أمام كنيسة القديسين بالإسكندرية، والتى أوشكت أن تفتح على مصرنا الغالية أبواب فتنة سوداء تصيب وحدة المجتمع المصرى وتماسك نسيجه الإنسانى، بضربة قاسية تنذر بتداعيات يدفع المصريون جميعا ثمنها الباهظ. كما تفتح الباب لزلزال أكبر يصيب علاقة المسلمين بالمسيحيين على امتداد أقطار العالم كله بشرخ كبير، قد يحتاج علاجه إلى عشرات السنين.

وكان سبب هذا التردد أن الصدمة الكبيرة التى ولدها هذا الحادث الإجرامى تستدعى عدة أمواج متعاقبة من ردود الأفعال، لسنا نحن المصريين استثناء منها:

الموجة الأولى: موجة حزن عميق، يصاحبها غضب جامح.. أما الحزن فتصدر موجته عن إحساس عاطفى ملتهب بالجانب المأساوى فى الجريمة، وهو جانب عشناه جميعا نحن المصريين على شاشات التليفزيون ونحن نتابع المنظر المتكرر لجثث الضحايا الأبرياء، وأشلائهم الممزقة المبعثرة، ومنظر الجرحى وهم يتألمون ويئنون وسط جمهور حائر لا يعرف كيف يمد يد المعونة إليهم.. وأما الغضب فقد كان أكثره خلال الساعات الأولى موجها ضد مجهول أو مجهولين، لأن ظروف الحادث بدت شديدة التعقيد، ولأن التحقيقات والتحريات التى تجريها أجهزة الأمن، وتلك التى تجريها النيابة العامة لم تنته بعد إلى نتيجة واضحة يبدأ بعدها التعامل المباشر مع الجريمة وتداعياتها وما نحتاجه لاحتواء آثارها، وتجنب تكرارها.

أما الموجة الثانية: فهى موجة سعت لتفسير ما حدث، وتحديد أسبابه المباشرة وغير المباشرة.. والجزء الأول من هذه الموجة يتوجه بطبيعة الحال نحو السعى لتحديد الفاعل أو الفاعلين المباشرين للجريمة، وكل من عاونهم فى التدبير والتخطيط لها، ومن ساهم بالتحريض أو الاتفاق أو المساعدة على تنفيذه.. أما الجزء الثانى من هذه الموجة الثانية فيتوجه إلى بحث «السياق المجتمعى» وخصائص البيئة الثقافية والسياسية التى أفرزت هذا النوع من العنف الذى يتصادم مع روح السماحة والرفق والرحمة التى جاءت بها الأديان السماوية كلها، والتى استقرت فى المجتمع المصرى كسمة عامة للشخصية المصرية التى يستوى فيها المسيحى مع المسلم.

وأما الموجة الثالثة: فتتجه إلى بحث الوسائل والإجراءات اللازمة لمحاصرة الآثار السلبية لهذه الجريمة، وإلى بحث القرارات والإجراءات التى لابد من اتخاذها لتجنب تكرارها.. وأبادر فأقول مع كثير من المحللين إن المفاجأة السارة الوحيدة التى أدى إليها وقوع هذه الجريمة أن تعاطف المسلمين المصريين على اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية واختلاف طبقاتهم الاجتماعية قد عبر عن نفسه تعبيرا بالغ القوة، شديد الوضوح، مما يَسَّرَ حدوث التئام سريع فى جرح أو شرخ كان قائما حتى ليلة وقوع تلك الجريمة، فخرج آلاف من المصريين المسلمين فرادى وجماعات، وممثلون لأحزاب وجمعيات ونقابات، يدينون الجريمة ويقدمون كل ما يملكون تقديمه من مساندة وعون لضحاياها، فاصطف بذلك جميع المصريين مسلمين ومسيحيين كالبنيان المرصوص، مما جدد ثقة الجميع بتماسك النسيج الوطنى، وأكد لخصوم مصر والمصريين أن جهودهم لتفكيك المجتمع المصرى والدولة المصرية قد حصلت خلال الأيام العشرة الماضية على شهادة موثقة بالفشل الذريع فى مواجهة ركائز وحدة وطنية امتد عمرها قرونا طويلة، ولا تزال تلك الركائز حية فى عقول المصريين وقلوبهم، تظهر كلما لاح فى الأفق تهديد جدى لتماسك مصر وشعبها يحمل معه بالضرورة تهديدا أشد خطورة لمستقبل مصر والمصريين.

وبقيت الموجة الرابعة: التى آن أوان الاشتغال بها، حتى قبل أن يصل الجواب القاطع على التساؤلات التى أثيرت خلال أيام الموجات الثلاث السابقة، ونعنى بذلك ضرورة تجاوز الحديث العاطفى عن وحدة المسلمين والأقباط فى مصر، اكتفاء برفع شعار الهلال مع الصليب، وغير ذلك من شعارات الود والتساند فى أوقات الشدة.. مما يقطع الطريق على شعارات وهواجس أخرى عدوانية تستجيب لتحريض المحرضين على تجاوز الحدود المعقولة عند ممارسة الغضب على بعض الأوضاع المجتمعية التى قد لا توفر للإخوة الأقباط ما توفره لهم النصوص الدستورية الصريحة من مساواة مع إخوانهم المسلمين فى الحقوق والواجبات دون تمييز بينهم فى ذلك، استنادا إلى اختلاف الأصل أو الجنس أو اللون أو الدين أو العقيدة (المادة «40» من الدستور).

1ــ وأول الدروس المستفادة من كارثة «كنيسة القديسين» هى تنامى الاقتناع بأن التوتر الذى شهدته السنوات العشرون الأخيرة فى علاقة مسلمى مصر بمسيحييها، لم يكن فى جزئه الأكبر مبنيا على أسباب حقيقية يتعذر القضاء عليها، وإنما كان فى جانب كبير منه ثمرة جهود عمدية من جانب أفراد وجماعات أقلها داخلى وأكثرها خارجى متواصل مع الداخل، وكلها يغذى الاستقطاب الدينى، ويسعى لتوظيفه فى تفكيك المجتمع المصرى وخدمة مصالح خاصة تتناقض تناقضا أساسيا مع مصالح مجموع المصريين.. إن من شأن هذا الاقتناع أن يفتح الباب على الفور للبحث عن الجهة أو الجهات صاحبة المصلحة فى تفكيك المجتمع المصرى وشغله باشتباكات متعددة المحاور تستهلك طاقته وتصرفه عن مواجهة التناقضات الأساسية الكبرى بين مصالحه ومصالح تلك الجهات.

2ــ الاقتناع النهائى الحاسم بأن محاولة إطفاء الفتن التى تطل برأسها علينا لن يتحقق أبدا برفع الشعارات وتوجيه النداءات التى تدعو إلى التماسك والترابط.. إن هناك تعديلات تشريعية يلح الإخوة المسيحيون فى ضرورة إجرائها، وعلى رأسها تشريعات ثلاثة:

أ ــ قانون دور العبادة الموحد، أو صدور قانون ينظم إجراءات بناء الكنائس وإصلاحها وترميمها دون مواجهة التأخير والتردد فى إجازة ذلك كله، وهو تأخير وتردد من شأنهما خلق شعور بأن هناك نية مسبقة من جانب بعض أجهزة الدولة لوضع العراقيل والعقبات فى وجه المطالب المسيحية المشروعة فى هذا الميدان المهم.

ب ــ وضع تعديل تشريعى يحمى ويعزز حق الإخوة المسيحيين من طلاب الوظائف المختلفة فى الحكومة وسائر مؤسسات المجتمع، ومنع كل صور التمييز القائمة على الأصل أو الجنس أو الدين أو العقيدة.. ذلك أن هؤلاء الإخوة يحسون أن فرصهم فى الالتحاق بالوظائف العامة تحجبها أحيانا ثقافة تمييزية قائمة تحتاج إلى إصدار التشريع اللازم لتبديد هذه الهواجس، وإلى إعمال دقيق من جانب المحاكم لمبدأ سيادة القانون فى مجالاته كلها Equal protection of the laws.

ج ــ أنه ما دام العلم اليقينى الثابت بحقيقة ما وقع فى الإسكندرية أمام كنيسة القديسيين، وما سبقه من إعداد وتدبير لم يتحقق بعد.. أو لم تكشف عنه بيانات الأجهزة الأمنية والقضائية، فإن الباب يظل مفتوحا لعديد من الاحتمالات التى لابد أن تمنح فرصة متساوية لتفسير ما وقع.

وهكذا قد يكون الأمر كله من تدبير وتنفيذ «مجانين» غسلت أدمغتهم بأفكار متطرفة روجها لهم آخرون فاندفعوا إلى أعمال جنونية ذات طابع إرهابى إجرامى، متوهمين أنهم يخدمون أهدافا وطنية مشروعة، ويحققون مصالح تعلو فى وهمهم على سائر المصالح المتنافسة فى المجتمع، وقد يكون هؤلاء أو بعضهم مسلمين أو مسيحيين، يحسبون أنهم مصلحون، مع أنهم فى الحقيقة وفى منطق العقلاء «هم المفسدون ولكن لا يشعرون».

ومع ذلك، يظل الأقرب إلى الظن والأجدر بالترجيح أن أكثر أصحاب المصلحة فى تفكيك المجتمع المصرى وإثارة بعض فئاته على بعض، وزعزعة استقراره هى الجهة أو الجهات التى تعترض طريقها مصر، لدورها الرائد والمؤثر فى وقف ومقاومة المد الإسرائيلى الصهيونى، الذى يعتقد قادته وساسته بأنهم يقفون على أبواب المرحلة الفاصلة فى الصراع العربى الإسرائيلى.. ولذلك أخذوا خلال السنوات الأخيرة يكثفون جهودهم العدوانية لتصفية جميع فصائل المقاومة الفلسطينية بأجنحتها المختلفة، ولإجهاض مفاوضات السلام مع الجانب الفلسطينى، واضعين الدنيا كلها أمام الأمر الواقع، غير ملتفتين إلى سلسلة طويلة من القرارات الدولية التى تلزم إسرائيل بمواقف إيجابية محددة تجاه عدد كبير من القضايا المعلقة، وفى مقدمتها قضية المستوطنات التى تقيمها إسرائيل بسرعة وتواصل غير مسبوقين على الأرض المحتلة، والإصرار فوق ذلك على إعلان يهودية الدولة الصهيونية ذات الأبواب المفتوحة أمام يهود العالم.. فضلا عن الحديث المعاد سرا وعلانية عن وجود آثار يهودية مقدسة تحت المسجد الأقصى، وعن خطط معدة سلفا لهدم ذلك المسجد.. كل ذلك فى وجه إرادة دولية اجتماعية لإقامة دولة فلسطينية على الأرض التى كانت فى يد الفلسطينيين قبل حرب 1967، وقد عبرت هذه الإرادة الدولية عن نفسها حين طالبت إسرائيل بوقف نشاط الاستيطان، ولكن الإصرار على ممارسة الاستعلاء قد صار الطابع الرئيسى لسياسة إسرائيل، ولتصريحات قادتها وزعمائها، ومحاولة فرض الأمر الواقع على دول العالم كلها، وحسبنا مثالا على تلك السياسة إقدام نتنياهو وحكومته على معارضة الموقف الأمريكى جهارا وعلانية إلى حد إحراج الرئيس الأمريكى ودفعه إلى التخلى عن وعوده التى أعلنها من جامعة القاهرة أمام العالم كله، ثم عجز عن تنفيذها، فى مشهد لا يتناسب البتة مع النفوذ الأمريكى الذى يفرض نفسه على أكثر دول العالم، ولكنه يتوقف ويتراجع أمام أول ابتزاز إسرائيلى متغطرس ومهين.

فإذا صح هذا كله وكله صحيح تقوم عليه الدلائل، وتؤكده التصريحات الإسرائيلية التى لا تنقطع، وتشير إليها القرائن القوية، كان أرجح الفروض فى تفسير الحملة على مصر، وما دبر ويدبر لها أن يكون لإسرائيل وأدواتها المختلفة الدور الأكبر فى التخطيط لما وقع فى الإسكندرية، والمشاركة فى تنفيذه ولو من بعيد بالتحريض والاتفاق والمساعدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved