النوم فى العراء بدون عشاء

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الأربعاء 22 يناير 2014 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لم يبق سوى يومين على 25 يناير.. قبل ثلاثة أعوام من الآن كتبت وكان يملؤنى اليقين بما أسطره بيدى «إننى أشفق على الذين حرموا أنفسهم من متعة الحياة ولو يوما واحدا فى ميدان التحرير، حيث مقر الثورة. الحياة فى هذه البقعة تبدو رائعة بشكل لا يصدق. والبشر فيها لا يكذبون، ولا يسرقون وليس فيهم محتكرون، ولا أحد يستغل نفوذه أو منزلته الاجتماعية. لا أحد هنا يأكل قبل أن يعزم بلقمته على الآخر، ولا ينام إلا إذا اطمأن على أن جاره فى هذه الأرض قد وجد غطاء. الجميع يأكل من نفس الطبق ومن نفس الطعام. والأطباء هنا يعالجون الجميع بالمجان دون ان يقف أحد فى طابور الانتظار. وليس هناك أولوية لنواب البرلمان على حساب المستحقين. والناس فى التحرير تحرس نفسها بنفسها دون جهاز أمن اعتاد على إهانة البشر. الشباب يحمى الجميع بأجسادهم، فهم يقفون بالساعات على أقدامهم يحرسون حدود المنطقة المحررة من هذا الوطن ضد البلطجية. وفى التحرير لا يوجد فقراء وأغنياء، فالكل يحمل المقشات وينظف الميدان، وفى نهاية اليوم تذوب الفوارق بين الطبقات. ولا تكاد تميز شباب الجامعة الأمريكية عن خريجى دبلوم التجارة، بعد أن تكون مهمة التنظيف قد أخفت معالم حاملى المقشات. عالم ميدان التحرير ليس فيه بشر من عينة أحمد عز، وأحمد المغربى، وصفوت الشريف ولا وزراء المليارات ولا نواب التأشيرات. وصدقونى سوف يأتى يوم يقول من لم ير كل هذا يا ليتنى كنت هناك».

•••

لم يبق سوى يومين على 25 يناير.. قبل ثلاثة سنوات كتبت وكان يملؤنى اليقين بما تسطره يدى «أعطى الغضب للمصريين قدرا من الطاقة لا يكاد يصدق. فقبل أيام من 25 يناير كان المصريون يزاحمون بعضهم فى طابور العيش للفوز برغيف زيادة. ويتبادلون السباب فى تسابقهم على مقعد فى الأتوبيس أو الميكروباص. الآن نفس هؤلاء الناس يبيتون فى العراء يتقاسمون البطاطين فى عز برد يناير. وعندما يشعر أحدهم بالحر فى نصف النهار يجد من يعزم عليه بزجاجه مياة أو بقية علبة عصير. وتجد فجأة من يخبط على ظهرك لكى يعرض عليك ما حمله من بقايا الشظايا، والعبوات الفارغة من الرصاص المطاطى، وبقايا القنابل المسيلة للدموع. وأصبح الشباب يتباهون بنصيب كل واحد منهم من هذا النوع من الرصاص المطاطى، مهنئين صاحب القسط الأكبر منه. ويأتى شاب آخر بدليل دامغ على فوزه، وهو التهاب يده من كثرة القنابل المسيلة للدموع التى كانت الشرطة تلقى بها على المتظاهرين، فيلتقطها هذا الشاب بيده من الأرض وهى مشتعلة، ويلقى بها فى جردل ماء حتى لا تخرج أدخنتها. ويعلن الجميع بأن هذا هو الفائز بجدارة، لأنه كان يؤمن ظهر المتظاهرين دون أن يعرفهم، ودون أن يطلب منه أحد ذلك، فقط يحبهم. والرأى فى التحرير بالإجماع ويتخذ بمنتهى الشفافية والقرار لأول مرة للناس دون تزوير. فلا يكاد أحد يسمع آخر يتحدث عما يجرى من أحداث، أو قرارات أتخذتها السلطات خارج التحرير حتى يبدأ ليقول رأيه، ويرد عليه الآخرون. وما هى إلا لحظات وتسمع هذا الرأى يعبر عنه بهتاف جماعى، سرعان ما يردده كل المتظاهرين. ويصبح موقفا جماعيا للميدان».

لم يبق سوى يومين على 25 يناير..قبل ثلاث سنوات كتبت وكان يملؤنى اليقين بما تسطره يدى «ياه ما أجمل أن تشعر بالونس مع أناس لا تعرفهم ولا تربطك بهم صلة، ولكن تأتى كل يوم إلى الميدان لتبحث عنهم وسط الآلاف من البشر، لعلك تجدهم فتبادلهم قطعة بطاطا ساخنة، أو تتقاسم معهم نصف كوز ذرة مشوى. وتتمنى ألا تنتهى الأيام حتى تظل تراهم. ياه.. ياه على الونس عندما يفاجئك وأنت تجرى بعيدا عن الميدان هربا من الغاز الذى تطلقة الداخلية، باحثا عن نسمة هواء تحميك من ضيق التنفس، شابا يحمل بخاخة ويبدأ دون استئذان منك فى الصراخ فى وجهك (افتح عينك) ويطلق فى مواجهتك ذلك السائل الأبيض الذى اخترعوه فى مواجهة غاز الداخلية».

•••

لم يبق سوى يومين على 25 يناير.. ولكنى الآن أقول ويملؤنى اليقين بما أسطره أننى أشفق على كل من عاش متعة الحياة ولو يوم واحد فى ميدان التحرير أيام كان مقرا للثورة. أشفق عليهم لأنهم صدقوا، بل وملأ اليقين قلوبهم بأنهم قادرون على اقتسام خير الوطن بالعدل. كانوا يراهنون على أنهم أصبحوا أحرارا وسيملكون زمام الحياة على هذه الأرض بأيديهم. كانوا يبحثون عن موضع قدم لفقراء هذا البلد. فراحت ثورة وجاءت أخرى وظلت خانة الفقير فى سنة 2008 هى ذاتها نفس الخانة فى عام 2010، وهى أيضا نفسها فى2012. كل المصريين فى الثلث الأدنى من شرائح الاستهلاك ظلوا فى نفس الخانات. يعنى الأسر التى تنفق على كل أولادها أقل من 1000 جنيه فى الشهر، ظلت نصيبها قبل الثورة، وبعدها ثابت لم يتزحزح عند 4.1% مما يستهلكه كافة المصريين. وظلت الأسر التى تنفق على أولادها أقل من 1300 جنيه فى الشهر لا تستهلك سوى 5.4% دون إضافة حتى ولو لقيمات قليلة. وهكذا الأسر التى تصرف أقل من 1400 جنيه فى الشهر لم يحالفهم الحظ لزيادة نصيبهم عن 6.2% من استهلاك المصريين لا قبل الثورة ولا بعدها. هكذا رصدت أوراق جهاز التعبئة والإحصاء.

أما خانات أغنى أغنياء الوطن فهى الأخرى ثابتة لم تتزحزح. ولكن لم ترصدها أوراق نفس الجهاز. لأنه ببساطة هؤلاء لا يفتحون بيوتهم للإحصاء لا قبل الثورة ولا بعدها. تظل أسرار حياتهم مغلقة عليهم، وأسوار قصورهم تحميهم من الأعين، ونفوذهم يحميهم من أى مساس بثرواتهم. ولكن طبقا لتقديرات فوربس فهولاء الذين يملكون أكثر من 10 ملايين دولار ويعيشون بيننا تبلغ ثرواتهم معا 50 مليار دولار.

•••

لم يبق سوى يومين على 25 يناير.. قبل أكثر من ثلاث سنوات كتبت، ولم يكن اليقين وقتها يكفى أن يملؤنى «بينما كان خمسة وزراء يتمايلون طربا على أنغام أغنية (سلامات) للمطربة نادية مصطفى بمناسبة شفاء الرئيس مبارك، وعودته سالما وذلك فى عيد العمال. كان أصحاب الحفل من العمال ينامون على رصيف مجلس الوزراء بدون عشاء. ولا يملك الواحد منا سوى أن يحسد اتحاد العمال على جرأته فى تنظيم ذلك الحفل. الذى كانت مصاريفه تكفى وحدها لحصول العمال المرميين على الأسفلت على رواتبهم، التى لم يصرفوها منذ شهور. لو كان وزير من الوزراء أضاع دقيقتين ونزل من المرسيدس وهو خارج من مجلس الوزراء ووقف للحظات وأنصت لهؤلاء العمال. لكان قد استمع لأحدهم وهو يقول أنا ذنبى إيه أن الحكومة باعت الشركة لمستثمر متجبر وحصل على قروض بعدها. وأخذ قرارا ببيع ارض الشركة، ثم أغلقها وطردنا فى الشارع. ولأنه ليس من المنتظر أن واحدا منكم سيسمع هؤلاء. فكان عليكم على الأقل أن توجهوا لهم الشكر، لأنهم لم ينغصوا عليكم صفو حفلكم، أو يسرقوا فرحتكم بسلامة الرئيس، وتركوكم تحتفلون بعيدهم، واكتفوا هم بسلامتكم».

لم يبق سوى يومين على 25 يناير.. ولم يزل عمال كثيرون ينامون بدون عشاء فى العراء. ولكن الفرق بينهم وبين العمال قبل الثورة. أنهم قبل يناير كانوا ينامون أمام مجلس الوزراء بدون عشاء، وبدون أن يعيرهم أحد أى أهتمام. أما بعد الثورة فالعمال لا يستطيعون فعل ذلك طبقا لقانون التظاهر. فالنوم بدون عشاء فى العراء بعد الثورة يستوجب أخذ إذن من الداخلية. كل ثورة وأنتم طيبون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved