التعليم الخاص والديمقراطية الاجتماعية

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الثلاثاء 22 يناير 2019 - 11:40 م بتوقيت القاهرة

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة «آمال موسى» تتناول فيه ظاهرة التعليم الخاص وتأثيرها على التعليم العمومى المجانى، وتكريس التعليم الخاص للطبقية والتمييز بين الطلاب.
أسست الديمقراطية الاجتماعية جاذبيتها على ديمقراطية التعليم والحق فى التعليم وواجب الدولة فى تلبية هذا الحق بشكل مجانى. فالحق فى التعليم مجانا ومن دون استثناء شكل بالفعل مضمون الديمقراطية الاجتماعية ومحرك التغيير الاجتماعى، الذى عرفته المجتمعات كافة. ولكن مع تراجع الاشتراكية وصعود الرأسمالية، وتمكنها من تحقيق انتصارات، على الأقل إلى الآن، فإن مبادئ الديمقراطية الاجتماعية قد تصدعت بقوة.
سنضرب مثالا على هذه التصدعات الكثيرة الخطيرة، وأغلب الظن أن التعليم أقوى هذه التصدعات وأكثرها تأثرا.
طبعا ظاهرة التعليم الخاص عالمية وليست حكرا على بلداننا، كما أن المخاوف التى عبَرت عنها النخب استنادا إلى دراسات وبحوث لم تشمل مجتمعاتنا فقط. ذلك أن كل مجتمع بنى تصوره للتقدم والتطور بالرهان على المدرسة العمومية وديمقراطية التعليم ومجانيته، باعتبار أن القضاء على الجهل وتنمية العقول بالمعرفة يمثلان شروطا لا غنى عنها لركوب قطار التنمية.
بالنسبة إلى الفضاء الأوروبى، مثلا، فإن مسار التعليم العمومى له تاريخ طويل، وعلى الرغم من بروز ظاهرة التعليم الخاص، فإن هذا الأخير لم يضرب التعليم الأوروبى العمومى الذى ظل محافظا على وظائفه من منطلق كونه مؤسسة أولية للتنشئة الاجتماعية التربوية. بمعنى آخر ظلَ الحق فى التعليم مكسبا قويا لم تتنازل عنه الدولة ولم تبدِ تراخيا فى القيام بواجبها إزاء الحق العام فى التعليم، مع مراعاة ما عرفته العملية التربوية من استحقاقات جديدة تُسهل الاستيعاب وتأخذ بعين الاعتبار جانب المعاصرة شكلا ومضمونا.
إذن لا نستطيع أن نتحدث عن أزمة مدرسة عمومية فى البلدان الأوروبية، بقدر ما هناك منافسة بين التعليم العمومى والخاص. ومع ذلك فقد تعالت أصوات حذرت من تأثير التعليم الخاص وتكريسه للطبقية بين التلاميذ والطلبة، وكيف أنه يمس جوهر فكرة العدالة فى التمتع بالظروف نفسها والمضامين نفسها، مهما كان المستوى الاقتصادى للتلميذ. بل إن عالم الاجتماع الفرنسى بيير بورديو الاشتراكى الخلفية والمعروف بمناهضته للعولمة والرأسمالية، أعلن أن المدرسة أضحت فضاء للتمايز الاجتماعى.
بالنسبة إلى مجتمعاتنا، فإن الأمر خطير جدا، وأعتقد أنه لا يقارب بالطريقة والوعى نفسهما، حتى وإن كانت الظاهرة التى نطرحها عالمية، وليست خاصة ببلد دون آخر.
ما يجعل الأمر مختلفا عندنا هو أن تاريخ المدرسة العمومية قصير، مقارنة بتاريخ المدرسة العمومية فى أوروبا، ذلك أن تاريخ تجربتنا فى التعليم العمومى بدأت مع بناء الدول العربية الحديثة الاستقلال آنذاك، أى أن العمر الفعلى لديمقراطية التعليم ومجانيته لا يتجاوز السبعين عاما. وهو ما يفيد بأن ثلاثة أجيال على أقصى تقدير استفادت من هذه التجربة، خاصة أن بدايتها كانت قوية وجدية، لأنها مثلت رهانا حقيقيا للنهوض بمجتمعاتنا التى كانت ترزح فى الأمية والجهل.
المشكلة اليوم أن غالبية الدول التى عُرفت بريادتها فى مجال التعليم مثل تونس والمغرب ومصر وغيرها، والتى استفادت من إطاراتها والمتخرجين فيها دول عربية وأوروبية كثيرة، هى اليوم تعرف بشكل متفاوت ونسبى أزمة تعليم عمومى.
نعم التعليم العمومى الذى تخرج فيه أحمد زويل ونجيب محفوظ ومحمود المسعدى ومحمد آركون ومحمد عابد الجابرى... لم يعد يتمتع بالهيبة والجدوى نفسهما، لأنه تحول من مصدر مشروعية ومصداقية للدولة، إلى عبء اقتصادى ينهك كاهل الميزانيات المنهكة. لذلك فتحت دولنا الباب على مصراعيه للتعليم الخاص وشجعت أصحابه، ولم تكن متشددة فى المتابعة ولا صارمة فى المقاييس، وتعاملت مع التعليم الخاص كحل لتخفيض تكلفة التعليم ومصاريفه. وإذا ما حاولنا إمعان النظر فى الامتيازات التى حاول إظهارها التعليم الخاص فى بلداننا، خصوصا فى مرحلتى الابتدائى والثانوى، فسنجد أنه ركز على إيلاء اللغات الأجنبية مكانة مميزة، من خلال إدراجها بشكل مبكر وفى تخصيص مساحات زمنية مهمة فى جدول الدراسة. ففى التجربة التونسية مثلا يتميز التعليم الخاص بتعليم اللغة الفرنسية من السنة التحضيرية، إضافة إلى تخصيص عدد الساعات المدرجة للغة العربية نفسه، وتدرس الإنجليزية من السنة الأولى الابتدائية. لذلك هناك تلميذان اليوم فى تونس: تلميذ يدرس فى المدرسة العمومية ويبدأ فى تعلم اللغة الفرنسية فى السنة الثالثة الابتدائية، وآخر ينطلق فى دراستها من السنة التحضيرية. وهو ما يعنى أن التمايز أصبح خاصية التعليم سواء فى تونس أو فى كثير غيرها من بلداننا العربية.
المشكلة الأكبر أن المضامين فى المدرسة العمومية التى تنسحب أيضا على المدرسة الخاصة، فيها كثير من الحشو بشكل يبنى علاقة متوترة بين التلميذ والمعرفة، الشىء الذى جعل المدرسة فضاء، فهى تؤدى وظائف متناقضة، بمعنى أنها تقدم المعرفة، ولكن طريقتها فى تقديم المعرفة تنتج ذواتا مضغوطة وغير منشرحة فى علاقتها بالمعنى والفكرة.
الخطير جدا هو أنه فى اللحظة التى اشتدت فيها الحاجة لوظيفة المدرسة العمومية فى مجتمعاتنا، التى تعرف أزمة متعددة الأبعاد، نجد أن هذه المدرسة بدأت تستقيل من ممارسة أدوارها التأسيسية الأصلية، ويحدث ذلك بتشجيع بعض دولنا للخوصصة فى التعليم من دون حذر ورصانة، باعتبار أن تكريس الطبقية بشكل غير مباشر وقبول عدم المساواة فى تحصيل بعض المعارف واللغات، إنما يعنيان فى مجتمعات بصدد التحول والتغير إذكاء للاحتقان الذى مرده تزايد الشعور بعدم العدالة، أو بما يمس فكرة العدالة فى مجال التعليم.

الشرق الأوسط ــ لندن

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved